مخبازة اليمن!

يدنو الغبش فنتهيأ للفحة البرد القادمة من حفيف الشوارع الباردة..
خطوات أقدام جنود الصاعقة تهيئ للفجر ولقبلة الشمس الأولى...
تدب الحياة بين الباب وبداية ما تبقى من سور صنعاء الأزلية...
تتهادى سيارات الفجر، تسمع النداء بين الأولى والثانية:
تعز، تعز باقي نفر

أحمد الشيباني مالك المطعم
أحمد الشيباني مالك المطعم

يجدد بقايا هزيع السحور صوت الموساني:

هيا الصباحة موسنة مناخة هيا باقي راكب، بينما يتسابق الركاب، هناك باص تعز، هناك باص الحديدة سيارات البيجو تسرق راكب من هنا، تلتقط راكب من هناك...

تتداخل أصوات منبهات السيارات بأصوات تتردد:

هيا يا دوب أين الفاصوليا

هيا واحد شاي ونص فول، أين الدب؟

والدب وهذا هو اسمه من قرية النباهنة قدس، ذات مرحلة عظيمة وأحلامها وتطلعاتها شغل الدب صنعاء، صنعاء القديمة تتدفق على الكراسي ليلا ونهارا تأتي صنعاء الجديدة بقضها وقضيضها...

ذات نهار قدم أحمد علي وشقيقه، لترتفع لوحة من حق تلك الأيام "مخبازة الشيباني" لتتحول يوما عن يوم الى مخبازة اليمن، على تلك الكراسي جلس اليمنيون من مهرتهم إلى صعدة:

شاهي شيباني

خبز شيباني

والزريقي وإبراهيم يذهبان يجيئان يجيبان زبائن المخبازة التي لم ينقطع السيل عنها حتى تقطعت أنفاسنا نحن حزنا على احلام رجال وئدت بين جبلي عصر ونقم.

كانت سيارة الروتي حق "السنجم" تأتي هي الأخرى فجرا وأنا أتميز من الغيظ، كيف تجاوز الشيباني مخبز الثورة وذهب الى باب السلام، كان "السنجم" العزعزي ضابطا في الصاعقة، انهى مهمته عسكريا فخلع البدلة وذهب الى سوق العمل، لم يشغل البلاد بكونه مناضلا وصاحب جميل، لا يمكن لك أن تحسب جميلا لك على وطنك!!

السنجم كان عديل البردوني...

تصحو صنعاء على وقع أقدام الزريقي

اما ابراهيم فيترك اقراص الشاي ويجري بعدي وأنا متوجه الى مدرسة سيف:

" أنا فدا لك خليني أشم دفاترك "، حُرم ابراهيم من التعليم فلم احرمه من رائحة كتبي وفي مقابل ريحة الكتب يمرر لي عندما أعود فنجان شاي شيباني مجانًا!

في نهايات الأسابيع ترى الصاعقة والمظلات هناك على الكراسي خميس وجمعة يتسابقون على "رشوش" احمد علي، وانا عيني تلاحق الطباخ الذي بحدسي كنت أردد:

هذا الرجل بمئزرة وكوفيته وشميزه المميز، لا يمكن ان يكون طباخا فقط..

ذات نهار مسكني:

يا عبدالرحمن أنا لست طباخ فقط عند عمك احمد علي الشيباني، بل كنت فدائيا مع جبهة التحرير، تركت عدن بعد الاستقلال...كان رجلا مهيبا

يحرص الـ"مصلي" وهذا لقبه على أن يقطع المسافة القصيرة بين مخبزنا في باب اليمن و مخبازة الشيباني بالسيارة " المحروسة " التي نوزع عليها الروتي، احيانا يعود الى الخلف ثم يرجع الى مكانه، ذات يوم لاحظه عمي فطرده ووقع لي يوم اعوج! ضحك احمد علي عندما سمع عمي يصيح:

يا احمد علي اصحابي " يزكنوا " الشاي بالسيارة

ضحك احمد علي حتى تعب...

أيام السبعين عمرت مخبازة الشيباني بالأطفال الذين يشيبون عند الفجر برجال تلقوا القصف فوق رؤوسهم غير آبهين، كان الجميع يحلمون..

على كراسي الشيباني جلس عبد الرقيب عبد الوهاب والوحش وجنود مجهولين...

ومن هناك مر قاسم منصر الشيباني وعلي الشيباني وآخرون كثر..

رجال من كل اصقاع هذه البلاد مروا على مخبازة الشيباني في باب اليمن، وانا ظلت روحي هناك في العمارة بين بيت البهلولي وعمارة مؤسسة النقل البري الذي منح الغنامي مديرها لوحة دعاية مضيئة لتائرات "بيرجستون" أو بريدجستون  فذهب بها المدير لإضاءة ديوان البيت!!!

الزريقي هو الاخر وكان طباخ الشاي غادر مخبازة الشيباني الى منتزه التحرير وصار بقدرة قادر رفيق الليالي المفعمة بنسيم ليل صنعاء..

كنا نصحو فجرا نبحث عن كأس بن فنراه يأتي بالبن قبل الناس جميعا، قلت ذات ليل:

يا زريقي كيف تقدمنا على الجميع

ضحك:

ما بيننا حليب أم!! لما اشوفكم احس اننا جئنا من بطن واحدة "ال….." يؤلف بين القلوب، الزريقي هو الآخر غادر صنعاء عائدا الى قريته لتنقطع أخباره عنا مثل علي الأبي الذي باع صنعا لأحمد عبد الله مقبل ب"7" ريال وانا من كتب صك البيع والشراء!

زمن مثلته مخبازة الشيباني التي لاتزال صامدة ولكن بلوحة أخرى "مزهنقة"

وأحمد علي عاد ادراجه الى بني شيبة بعد أن عايش اروع مراحل عمر هذا البلد..

من اليمن كله مر الرجال على مخبازة الشيباني...

لله الأمر من قبل ومن بعد.

 

عبد الرحمن بجاش