الخدعة الكبرى

الخدعة الكبرى

*عبدالباري طاهر
وعد البريطانيون الشريف الحسين في الحرب الكونية الأولى (14 – 1918)، وهو أمر معروف الآن حد اليقين، وعدوه بتتويجه ملكاً على العرب و«التحرر» بين مزدوجين من النير التركي، فبلع المغرور الطعم وقاتل مع الحلفاء ضد الخلافة الإسلامية «الغازية» ليكون أكبر ضحية لاتفاقية "سايكس –بيكو" 1916 بشأن تقسم الأقطار العربية.
وعندما قامت ثورة أكتوبر الاشتراكية بنشر بنود هذه الاتفاقية الاستعمارية ضد بريطانيا وفرنسا، اتصل الحسين بالإنجليز طالباً رأيهم في هذه المعاهدة، فاستلم تأكيدات بأن المعاهدة مزورة، فصدق الشريف «الخدعة»، ومضى في طريق الحرب ضد الأتراك، ليقع وعياله «الملوك» فريسة الوحوش: البريطانيين والفرنسيين، الذين توزعوا الأرض العربية بالقيراط والسنتيمتر، وكان الأذكى أمير نجد الذي قفز من السفينة البريطانية التي قاتل معها إلى البارجة الأمريكية الدولة العظمى المنتصرة.
في حرب 6 أكتوبر أبلى الجيش العربي المصري والسوري بلاء حسنا في الانتصار العسكري على إسرائيل، ولكن السادات حرص على خداع نفسه الأمارة بالسوء في حمل راية الهيمنة الأمريكية من طنجة إلى جاكرتا، وذهب ضحية «الوهم» بعد أن كبل مصر والأمة باتفاقات كامب ديفيد.
وركب الوهم صدام حسين الذي اعتقد إمكانية إسقاط «الثورة الإسلامية في إيران" بهزة واحدة، فكانت الكارثة على العراق والأمة كلها، وكان مزوداً بتقارير استخباراتية أمريكية مغرية، ولم يكن الأمريكان والأوروبيون والمال العربي والتجنيد بعيداً عن «الخدعة».
قاتلت عدة دول عربية ضد العراق مع أمريكا وبريطانيا -السادة القدامى الجدد، موعودين بحل للقضية الفلسطينية، ليخرجوا بتدمير العراق وتقديمه لقمة سائغة لطائفية مدمرة ولنفوذ إيراني لا يرحم، وليصبح جرحا نازفاً في جسم الأمة كلها، وربما نقطة وثوب قادمة ضد من غدر به.
أما التواطؤ ضد لبنان وفلسطين فلربما بدا كخيار ذاتي لولا إدراكنا أن حكامنا ليسوا بمستوى صنع القرار المستقل وحرية الخيار وحق الاختيار.
الخدعة التي نستنشق دخانها المسموم اليوم، تحول معركتنا من معركة قومية ضد إسرائيل؛ العدو المغتصب أرض فلسطين، وأرضاً من سوريا ولبنان والأردن، والمنتقص من سيادة مصر على سيناء، والمهدد للأمة العربية إلى معارك داخلية طائفية وقبائلية وجهوية، وحتى لغوية، بين أبناء الأمة: ففي السودان صراع الشمال الجنوب، ودارفور، والجزائر والمغرب، والمغرب والبوليساريو، وفي الجزائر مع القبائل والجهادية السلفية، وانفراط عقد الصومال غير البعيد عن الصراعات العربية.
والخدعة الكبرى وربما المميتة الاستجابة للدعوتين: الأمريكية والصهيونية باعتبار جوهر الصراع حالياً داخلياً بين السنة والشيعة، أو بين المسلمين والأقباط -مصر مثلاً، وخارجياً بين الأمة وإيران، والمعركة بل المعارك المتفجرة في اليمن بين الحوثيين والحكم، أو بين الحوثيين والسعودية، ومع القاعدة، لا يخرج عن هذه «الخدعة» التي أطلقتها الإدارة الأمريكية وإسرائيل، وتلقفتها الأنظمة العربية في المغرب العربي والجزيرة العربية، باستثناء قطر وعمان والعراق الذي له شأن يغنيه.
فالحرب المدمرة في اليمن في صعدة منذ 6 أعوام، تشعل فتيل صراع طائفي سلفي وزيدي، وقد دخلت السعودية على خط الحرب منذ 3 أشهر.
وإذا كان النظام في صنعاء قدر أسابيع لحسم المعركة، فإن السعودية قد قدرت الحسم بأيام، توهم جيشها القدرة على نقل الجبال والقرى والقبل عشرات الكيلومترات إلى الخلف -أي إلى ما ورداء صعدة.
يغض السيد الأمريكي الطرف عن جرائم الحرب في صعدة على كثرتها الكاثرة، ابتداء من الشعارات الإبادية: الأرض المحروقة والاجتثاث والتطهير والاستئصال، ثم القصف العشوائي للمزارع والقرى والأسواق والمساجد، وتهجير السكان وتشريدهم، ومنع وصول الإمدادات الحياتية إليهم.
وهناك أخبار عن مشاركات أمريكية من قبل خبراء واستخبارات ومدربين في الجيش اليمني في الجبهة.
فهذه الحروب والفتن الداخلية المقيتة قد دفعت "القضية الأولى" إلى الخلف، فلم يعد العرب يتحدثون كما يجب عن قضيتهم الأولى والمقدسة، وانصرف كل نظام للحديث عن معاركه وانتصاراته الداخلية.
كما أنه لم يعد لأي نظام من هذه الأنظمة حق الحديث عن حرب الإبادة الإسرائيلية، ولا عن التمييز والتطهير العرقي، ولا عن التعذيب وتشريد الفلسطينيين، بعد أن أعلنت هذه الأنظمة الحرب على شعوبها، وربما تطمح إلى التفوق على إسرائيل مستقبلاً، ولكن في حربها ضد شعوبها.
أما الحرب ضد السلاح النووي الإيراني، فهي الخدعة والبوابة الكبرى للتحالف ولقبول قيادة إسرائيل للمنطقة العربية، وليس إيران أو تركيا.
مطلوب في هذا التحالف الجديد «التشطيب» نهائياً على شيء اسمه القضية الفلسطينية، والحل إما بكنتونات محاصرة ومعزولة، أو بالتهجير إلى الوطن البديل الأردن. أما حماس فإن الجدار الفولاذي المصري والحرب اليومية الإسرائيلية كفيلة بإخماد أنفاسها، والحكام العرب «المعتدلون» جداً، وفي مقدمتهم مصر وجماعة أبو مازن، غير بعيدين عما يجري.
والخشية في الخدعة القادمة أن يسوى الخلاف مع إيران الآيات، متشددين كانوا أم إصلاحيين، على حساب قبائلنا العربية «الشجاعة»، وتقديمهم كهدايا للنفوذ الإيراني، كما كان حاصلاً في عهد الشاه، ولا يهم الغرب غير مصالحه وإسرائيل كحليف استراتيجي حقيقي.
وفي كلا الاحتمالين: الضربة أم الاتفاق، فإن الأكيد أن بني يعرب هم الضحايا، وستكون اليمن والسعودية كبشي المحرقة التي أرادوها لخصومهم، بل لأهلهم وأبنائهم. «ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله».