لم يبقَ إلا صورة: عن نوال السعداوي

"لم يبقَ من هذه الفترة من عمري إلا صورة فوتوغرافية التقطها مصور عابر في لحظة عابرة من تسعة وخمسين عامًا، أحتفظ بهذه الصورة القديمة داخل مظروف في درج مكتبي، ورقة صغيرة انطفأ لمعانها، بهت الحبر فوق الورقة، لكن الحروف بخط يد أمي لاتزال مقروءة..." (أوراق حياتي، ص39).

**
شكلت كتب الطبيبة والكاتبة، نوال السعداوي قيمة فكرية تمردية بالنسبة لي في بداية تكويني، ومازالت أذكر كتبها الأولى، في الثانوية، بداية الثمانينيات: "المرأة والجنس"، "الوجه العاري للمرأة العربية"، "كانت هي الأضعف"، "مذاكراتي في سجن النساء"، كانت زادًا فكريًا، عرفني على عالمي وعوالم النساء الداخلية المكبوتة المسطورة بسيف العيب والحرام، وو.. الخ من العورات وتابوهات السلطة الذكورية الفائقة القداسة، والتي تصل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بكافة مذاهبها، إلى الألوهية، وما أكثر الألوهيات القاتلة، في البلاد العربية والإسلامية، واليمن على وجه الخصوص، نرى مشهديتها الفرجوية الفاجعة اليوم في مرجعيات مليشيات القرآن الناطق (الحوث-فاشي)، وقبلها الإخوان المسلمين من حزب التجمع اليمني للإصلاح والسلفيين، فالجذر الداعشي واحد من حيث النوع، مع اختلاف بدرجة العنف الفائض للحوثية خرابًا وتقتيلًا وتدميرًا للمجتمع، وخصوصًا للنساء والأطفال.

نوال السعداوي(صورة من إرشيف الكاتبة)
نوال السعداوي(صورة من إرشيف الكاتبة)

نعم، شكلتني السعداوية، في جل كتاباتها المتناثرة، وسيرة حياتها ورواياتها الأدبية، التي تتبعتها آنذاك -ومازلت- عبر الصحف والمجلات، فالفكر المتمرد، وكلمة "لا" لم يؤثرا على شخصي فقط، بل امتدا إلى نساء العالم، والعالم العربي على وجه الخصوص. ولذا كانت الضربة/ الوصمة علينا، وخصوصًا في اليمن الأتعس والأقسى قلوبًا وأفئدة، من أننا نسير على درب الغواية وتحطيم القداسة ومجاذيبها القدماء والجدد، وأننا الشر المحض الذي يجب على كل المرجعيات أن تتحد لوقف أدب التمرد عند النساء ومحوه، وأضعف الإيمان "رصاصة" الشرف والعار القبلي والديني، وللأمانة وأنا في هذا العمر الخمسيني، أستطيع القول إنهم انتصروا علينا، ولذا نحن هنا خارج: أو ما يطلق عليه المنفى القسري، وبقية النساء في السجن الكبير: اليمن.

2
حملتُ كتبها -أعلاه، من بيتنا في حوض الأشراف بتعز، وكأنها منشورات سياسية لعمل حزبي سري، ورافقتني في دراستي بجامعة صنعاء، 1985، لتتشكل بجانب السعداوية قراءات جديدة في الفلسفة والمنطق وعلم الجمال: الرفض لأن تكوني امرأة "مُعرفة بالعورة وناقصة عقل ودين وميراث، وروح وحياة"، امرأة رافضة تقاليد موروثات الختان العقلي والجسدي، حتى لو احتشد الظلاميون في تجديد الخطوط الحمراء التي يتسابقون عبرها لتقتيلنا الجسدي والرمزي، وأقلها تهم الأخلاق (وفي هذا الباب، لو فتحته وكتبت فيه، لن تكفيني الدفاتر أبو ألفي ورقة)!
يا االله، كم وكيف علمتني نوال السعداوي، كسر التابوهات، وسور التأثيم المجرور لمئات القرون، من الترسانات الدينية والاجتماعية والسياسية، وخصوصًا تابو الإسلام السياسي، وخزنة الفتاوى الفقهية، وإن تقاطعت مع كتاباتها في ما بعد، لكنها بالمجمل شكلتني، أعطتني قوة، كلما كان الجلد والقسوة، والانهيارات، مووووجعة.

3

نوال السعداوي في ميدان التحرير بالقاهرة(الصورة من إرشيف الكاتبة)
نوال السعداوي في ميدان التحرير بالقاهرة(الصورة من إرشيف الكاتبة)

في أواخر 2011، ذهبت إلى مصر الحبيبة (ابتعاث إلى مكتبة الإسكندرية، من قبل المعهد الأمريكي للدراسات بصنعاء)، بعد أن كنت ملازمة لساحة الحرية والتغيير بصنعاء، وبعض محافظات اليمن، وتحديدًا سافرت (بعد اللبج الثوري الساخن من قبل فيالق "حماة الثورة"، الذي تعرضنا له مع مجموعة من الزميلات، بما فيه تكسير كاميرتي) بحجة أننا ثورة مضادة وطابور خامس وعاشر، وعميلات للأمن القومي، ومنحلات أخلاقيًا، وراقصات، ووو... الخ!
زرت ميدان التحرير بالقاهرة، رأيتها، نعم رأيتها: أمنا نوال السعداوي، قديسة تجلس مع الشباب كأبنائها، وهم يحوطونها بالحب والإعجاب، كانت تستمع إليهم أكثر وبإنصات، تكلمهم، تضحك، تزم شفتيها، تبتسم، تؤشر، تحدق، تكتب، تطالع صحيفة... الخ، شعرها الأبيض وتجاعيد العمر ونظرات من ذكريات الزمن/ الطفولة وهي في عمر الخامسة عشرة، ومشاركتها في التظاهرة ضد الإنجليز والملك عام 1946، والجديد الثوري 2011، ثمانينية في زهو الشباب، محلقة بشارات الحرية وحلم التغيير بعالم جديد لمصر وللربيع العربي الذي تخيلنا عروبتنا الجديدة (براقًا لمع)، تقول في كتابها "الثورات العربية"، بعد موقعة الجمل: "بدأت أشعر بأن أية خيمة في ميدان التحرير هوي وطني، وأن كل من فيها هم أسرتي... أنتقل من خيمة إلى خيمة، كأنني أنتقل من غرفة إلى غرفة في بيتي"، بل عندما يوصلها الشباب إلى بيتها، وتكاد تسقط من التعب، حتى تتمنى أن يظهر الصباح لتذهب إلى الميدان مرة أخرى، وفي موضع آخر، تقول: "لم أعد أريد مغادرة الميدان، ولم أعد أريد العودة إلى بيتي، أصبح ميدان التحرير وطني الذي كنت أبحث عنه منذ طفولتي" (ص112-113)، وتقول في موضع آخر،: "أحسست بطعم الثورة والتغيير، في ساحة التحرير شعرت لأول مرة بأن المرأة مساوية للرجل".

يا لها من أحلام، تقاسمناها نحن النساء، إذ كيف يرتفع سقف طموحاتنا، حد الهذيان (الأخير، أقصد نفسي)، لا نصدق ما يعتمل في الساحات الثورية من عنف وعنف مضاد، نصر على أن الثورة ستنتصر، وأن اليمن دولة مدنية وحديثة كمان، وكلما رفعوا السيف والمصحف، تتعالى أحلامنا بالتعليم بالعقل والفلسفة والتكنولوجيا، وكلما غلظ الحبل الثوري وخنقنا، نصمد ونقول: "مش وقته الآن"، فـ"الحياة لونها بمبي"، كما تقول سعاد حسني، نحن في الربيع، اليوم، وأنا أكتب هذه المقالة، محدقة بصور ساحة التغيير بصنعاء، وميدان التحرير بمصر، أضحك بأسى، نعم، ذلك الربيع اشتط وافترس الحاضر والمستقبل ليكرر التابوهات بإصرار رباني عنيد وبتكة اسمها: الربيع الثوري، لـ"ارحل، والشعب يريد إسقاط النظام، وحرية، ديمقراطية، ومدنية"... الخ (أتتني وأنا أكتب غصة وسخرية، وجلد أين كنا مغيبين.. فعلًا سفخونا الجن، كلمة بسيطة أمام ما كان يحدث ويعتمل، اللخاج الثوري كان غير في ساحات التغيير والحرية في اليمن)!

4

السعداوي وهي تطالع إحدى الصحف(الصورة من إرشيف الكاتبة)
السعداوي وهي تطالع إحدى الصحف(الصورة من إرشيف الكاتبة)

ذات العمر الثمانيني، لم يقتصر وجودها على الميدان فقط مطلقًا، بل أزهرت وببهجة، كتابات وسفريات، ومحاضرات وو... وليس بآخر، كتبها التي ألفتها، "الثورات العربية"، "امرأة تحدق في الشمس"، "الأسئلة الممنوعة وتجميد العقل".
ما الفرق بين الحلم والوهم يا منى؟!
في حديث بينها وبين ابنتها الوحيدة منى، أثناء مغادرتها بيتها إلى المطار، مارس 2012، تقول متسائلة: "بوادر هزيمة... تغلبت قوى الثورة المضادة والتيارات السلفية؟ هل ترددت كلمة مافيش فايدة"، لتسرد السعداوي الضائقات أثناء سفرها في ذلك الصباح والطوابير... الخ، فتسأل ابنتها: "ما الفرق بين الحلم والوهم يا منى؟!" (ص120).
ليس بأخير:
برغم الانطحان، وصورة مصر بعد الربيع وقبله، ومثلها بلدان الربيع الأخرى، إلا أن الأمل والحلم ظلا يلازمانها كسيرورة وجود، حتى وهي في التسعين من عمرها، حيث يزهر بالكتابة التي تعدها "الرئة التي تتنفس منها"، مشددة على قيم الثورة والمساواة والتعليم، وإعلاء العقل، والديمقراطية... الخ، تودعنا، قائلة: "لقد انتصرت على الحياة، فلم أعد أرغب فيها، وانتصرت على الموت فلم أعد أخشاه".
على فكرك وروحك أفضل السلام، فـ"نوالنا السعداوية" لا تموت.