مت يا أمي

مت يا أمي

* منى صفوان
في سبعينيات اليمن الجمهوري، كانت "علوم محمد سلام" من أوائل المنضمات للكادر الصحي في "المستشفى الجمهوري" بتعز، كانت شعلة "الثورة" في بدايتها وأوجها، وهو زمن تشجيع انخراط النساء والرجال على حد سواء، في هذا المجال الحيوي، لأن الثورة جاءت للقضاء على المرض، كواحد من أهدافها الستة..
تعز وقتها، مدينة الثورة. خلية العمل والتعليم. المتعلمون من تعز، والذين حصلوا على تعليم جيد في عدن، كانوا هنا الآن يسهمون في بناء مدينتهم، وكانت الثورة مهتمة ببناء المدارس، وتعليم أكبر قدر ممكن من أبناء تعز.
في هذا المناخ عاشت "علوم"، وربت أبناءها، وأصغرهم "ربا"، و"علوم" التي توفيت قبل أربع سنوات، كانت قد شهدت إهمال هذا المستشفى، الذي وهبت له حياتها، بعد أن دخلته كمريضة عدة مرات، وشهدت الحالة التي وصل لها.
وبعد تقاعدها، قٌطعت صلة العائلة به، كما قطعت صلة تعز، بمركز الثورة في صنعاء، وبدأت تعز تعاني الإهمال والإقصاء.
وحتى وفاة "علوم" في بداية العام 2006 في منزلها، بعد حياة كفاح، كانت قد مرت على دورة الحياة التي مر بها المستشفى الحكومي في تعز، وحال الاهتمام الحكومي بصحة الملايين في تعز. فشهدت في شبابها، الثورة الشابة، وبعد كبرها في السن، شهدت كذلك شيخوختها.
رغم ذلك، لم تغادر وعائلتها طوال هذه السنوات، حي المستشفى الجمهوري. وفي هذا الحي ولدت وتربت وكبرت "ربا"، أصغر بناتها... ومنه كانت خرجتها الأخيرة...
إنها "ربا يحيى منصور"، وهو الاسم الذي تكرر في الأسبوع الفائت في أخبار العزاء، لواحدة من ضحايا "حمى الضنكـ" التي تعاني منها تعز.
ضحية تعمل كأستاذة جامعية في جامعة تعز كلية الحقوق، وكانت تستعد للمغادرة للقاهرة، لتحضير رسالة الدكتوراه، ضحية مر على زواجها فقط 8 أشهر، ضحية في العشرينيات من عمرها، وكانت والدتها تساعد في إنقاذ أرواح الكثيرين حين كانت "الثورة والجمهورية" مهتمة بحياة اليمنيين.
اليمنيون اليوم، يموتون بسبب أمراض يمكن علاجها، هذه هي الفاجعة. والملايين في تعز الذين كانوا يجدون في الثورة أمهم، باتوا مهددين اليوم بالموت بسبب أمراض لم تكن تعز تعرفها من قبل، وغيرهم الملايين في عموم اليمن، لا يعلم عنهم أحد شيئاً.
"ربا" واحدة من هؤلاء الملايين، الذين يتقاسمون ذات المصير، بغض النظر عن مستواهم التعليمي، أو الاجتماعي، أو المعيشي، لأننا في زمن الأوبئة والفساد والإهمال.
المرض لا يفرق بين الناس، وفي زمن لم تعد فيه الحكومة تقوم بواجبها لتهتم بصحة مواطنيها وحياتهم، وفي زمن هذه الدولة، وهذه المرحلة من حياة الثورة، يمكن للموت أن يكون مصيرا موحدا لليمنيين، سواء كانوا يقاتلون على الحدود، أو يتظاهرون في الجنوب، أو يصارعون المرض في مشفى حكومي أو خاص.
"ربا" لم تدخل لمستشفى حكومي، لأن أهلها أراودوا إنقاذ حياتها، ولكن حتى هذا الخاص لم يفلح، فالتشخيص كان متأخرا، والإهمال كان مثابرا، هذه المشافي عادة ترفض استقبال الحالات التي تكون حالتها ميئوساً منها، لتموت الكثير من الحالات على باب المستشفى، والحالات التي يمكن استقبالها تموت على سرير المستشفى. فتعز، لا تتصرف اليوم كمدينة منكوبة، ولا يجري الاهتمام بها على هذا الأساس. الإعلام الرسمي الذي يحتفي بأعياد الثورة كأية دولة مستقرة، لا يظهر حجم الكارثة التي وصل لها اليمن، ويتجاهل متعمدا مصير الملايين، الذين لا يهددون "الثورة" ولا "الوحدة".
ليس "لربا" ذنب، أن حال مدينتها تدهور لأسباب سياسية، وأن الأمراض تفتك بمن فيها، لأن الدولة منشغلة بإدارة أزمتها السياسية بطريقتها.
... "ربا" التي توفيت عشية عيد الأضحى، كانت تفتقد أمها كثيرا، واليوم يفتقدها زوجها وأخواتها وأقاربها.
... وأما تعز فهي... تفتقد "أمها" كذلك.
monasafwanMail