شخصية حُسْن في رواية باهوت يفرس

"باهوت يفرس" رواية سردية كتبها الروائي أحمد العريقي، وهي رواية تستلهم سيرة القطب الصوفي الشهير الغوث أحمد بن علوان، وقد فازت بجائزة محمد عبدالولي للرواية -وهي جائزة يمنية تنظمها دار عناوين للنشر- وقد شد انتباهي بناء شخصية "حُسْن" وهي واحدة من الشخصيات التي قدمها الكاتب في الرواية، وبحسب تصوري فهي شخصية مختلقة بالكامل،

ولها أهمية خاصة كشخصية متخيلة في هذا السرد المستلهم من أحداث تاريخية، لأن كتابة رواية تقدم سيرة شخصية صوفية هامة، كسيرة الغوث أحمد بن علوان، مهمة ليست بالسهلة؛ فحيث يتطلب هذا النوع من الأعمال القدرة على ابتكار فضاء متخيل يمكنه أن يسمح بترميم الفراغات الكبيرة التي في حياة البطل التاريخي، خصوصًا عندما تكون المراجع شحيحة، أو متناقضة، أو بها فجوات زمنية كبيرة، كما يمكنها أيضًا أن تمنح العمل بعدًا إنسانيًا وعاطفيًا يجعله قريبًا من روح القارئ وعاطفته، وهذا ما حدث مع شخصية حُسن.

ولن أناقش في هذا المقال مسألة الرواية بين السرد التاريخي والسرد المتخيل، لكنني سأدرج توضيحًا سريعًا يقرب مفهوم الرواية المستلهمة من أحداث وسير تاريخية؛ حيث يرى المفكر "رولان بارت": أن هناك الكثير من التقارب والتماثل بين سرد المؤرخ لأحداث الماضي، والسرد القصصي والروائي، بل إنه يعتبر السرد التاريخي شكلًا من أشكال الأدب.

وفي تحقيق حديث أجرته "نجاة الفارس" لمنصة "الخليج"، تناولت مسألة الرواية التاريخية، من وجهات نظر متعددة لبعض الروائيين والنقاد، خلصت فيه إلى أن الرواية التاريخية مصطلح يحتاج إلى ضبط، وسوف أقتبس من هذا التحقيق نصيحة جاءت على لسان الدكتور "شعبان أحمد بدير" للروائيين الذين يكتبون هذا النوع من الأدب، بقوله: على الروائي أن يستغل السمة المشتركة بين الرواية والتاريخ، وهي السرد، فالرواية التاريخية تعد نوعًا من السرد القصصي الذي يدور حول حوادث تاريخية حدثت بالفعل يعيد الكاتب إحياءها بأشخاص حقيقيين أو خياليين.

يعد البناء الذكي لهذا النوع من الشخصيات مهمًا بحيث يجعلها تعيش في ذهن القارئ لفترة طويلة، وسنجد هذا النوع من الشخصيات في عدد من الروايات المستلهمة من التاريخ، مثل شخصية فاطمة الزيات في رواية "أيام الإخشيد"، للكاتبة ولاء أبو غندر، وشخصية نظام في رواية "موت صغير"، للكاتب محمد حسن علوان، وشخصية إيلا في "قواعد العشق الأربعون"، للكاتبة إيلاف شافاق.

أما حُسن فهي شخصية رومانسية تراجيدية، تعيش قصة حب كبيرة من طرف واحد، تواجه الرفض العاطفي القاسي، وهذا الرفض الذي تعرضت له يجعلها تحاول اكتشاف حب جديد تفنى فيه دون أن تتعرض للصد والألم.

ولعل الروائي في هذا العمل قد استطاع بناء شخصية جذابة تعيش ظروفًا معقدة، وتمر بصراع نفسي قوي وتحولات جعلتها شخصية مقنعة، وقابلة للتصديق والتعاطف، فقد تعمد أن يجعل حُسن تبدأ سردها من نقطة موت أحمد بن علوان، وذلك في خط سير معاكس لبنية السرد في الرواية التي تبدأ منذ ولادة القطب الصوفي وحتى وفاته، وكان لا بد للكاتب أن يجعل الشخصية تبدأ سردها من هذه النقطة؛ نقطة الموت، وكأنها تسترجع ماضي حياتها لتتمكن من أن تسرد بحنين وحرية مشاعر الطفولة والمراهقة والشباب التي عاشتها، وما كان ليتمكن من أن يقدم هذا الخطاب على لسان الشخصية فيما لو جعل السرد متسقًا مع بنية الرواية نفسها، لأنه كان سيقع في إشكالات متعددة تتعلق بعمر الشخصية وقاموسها اللغوي ونضجها الفكري. وبرغم وعي الكاتب بذلك، إلا أن بعضًا من الجمل والتعابير اللغوية التي قُدمت على لسانها، قد لا تتوافق مع بنائها الفكري وقدرتها البلاغية، وهذا ما سنعرج عليه لاحقًا.

 

سمات شخصية حُسْن

قام الكاتب ببناء سمات الشخصية -في تصوري- وفق السمات الخمس الكبرى للشخصية، وتمكن من رسم أبعادها العاطفية والنفسية والاجتماعية ببراعة؛ فمنذ اللحظة الأولى تقدم حُسن نفسها كإنسانة تضج بالحياة والحيوية والنشاط، لديها ذكاء اجتماعي واضح جعلها شخصية محبوبة وتحظى بتقدير من الآخرين، وبرغم هذا القبول الذي يحيط بالشخصية، إلا أنها تتعرض للرفض العاطفي المتكرر الذي يصل ذروته عندما تواجه دعوة الحب التي قدمتها بصد قاسٍ؛ فتعيش عذابًا عاطفيًا لا حدود له، ولا تستطيع الفكاك منه وتجاوزه بسهولة؛ وهنا يحدث التحول الجذري في حياتها الذي يجعلها منغلقة على تجربة الحب والعاطفة، حتى عندما طلب منها أن تكون زوجة الشخص الذي حلمت به طوال حياتها؛ لتصبح في المقابل منفتحة على تجربة جديدة جعلها الكاتب أقرب إلى عيش تجربة صوفية خاصة استطاعت من خلالها التأثير في المجتمع وبناء زاوية لها؛ لتقوم بتقديم المعرفة للنساء والأطفال.

 

بعض الملاحظات على تطوير شخصية حُسن

الملاحظة الأولى:

 

تغلبت رغبة الكاتب في تقديم جمل رومانسية على لسان الشخصية، على وعيه بالتحولات التي تحيط بالعمر واللغة والتعليم والواقع الاجتماعي، وتظهر هذه الرغبة بهيئة جمل شعرية رهيفة. يقول الكاتب على لسان حُسن بلغة حديثة:

"كنت أصغي وقلبي يرشق أحمد بالحب، ويوقظ في داخلي مارد الأنثى بظمأ الحنين في صمت وقور على أمل الارتواء بلقاء مقدس. قلت لنفسي: أيها الممتلئ سحرًا، والنائم سرًا وسرورًا في صدري، أنت هوائي الذي يبقيني على قيد الحياة" (ص62).

"أسافر وحيدة مبحرة في أعماقي، أبحث في داخلي عن أحمد؛ علني أجدني حين أجده، فأجد به راحتي وهنائي. أسامر طيفه قمرًا في سماء وجدي، فتنسل أضواؤه إلى قلبي شيئًا فشيئًا، تنتشلني من دهاليز اليأس، أراه في فنجان قهوتي، أحتسيه رشفات، ويحتسي شفتي قبلات" (ص78).

"ما تخطه أناملي عن فؤادي ليس إلا بضع كلمات من بحر عشقه الذي ترحل فيه أشرعتي المترعة بكؤوس العشق، ولم تعد سفينتي قادرة على حملها، وعواصف الانتظار تعبث بها، وأنا المنفية في داخلي، قابعة في قبو أعد أنفاس الخيبات وهي تتمطى في مشيتها، أقضم يد الصبر، وأعض على شفة الحنين" (ص94).

الملاحظة الثانية:

برغم أن الشخصية وجدت الحب الأكبر الذي لا يساويه حب ولا عشق، إلا أنها تقول، وفي داخلها شيء من الندم: "وفعلًا كنت أحزن أنني لا ثمار مني، وأنني شجرة دون فائدة، غير ظلها الذي تستفيد منه أمي، فقد أرحتها من عناء جلب الماء، والعناية بالحقول، وتقديم الكلأ للبقرة" (ص108).

هذا الندم يبدو متناقضًا مع إيمان الشخصية بأنها وجدت العشق الأكبر، وبدورها في توعية نساء القرية وتعليم الأطفال، ومع تقدير أهالي القرية لدورها، وقيامهم ببناء زاوية لها لتعلم نساءهم وأولادهم، فهل هذا الندم هو حكم الكاتب تجاه النساء اللواتي لا يتزوجن وينجبن، أم حكم المجتمع، أم كلاهما معًا؟

تناقض حُسن هذا الندم (ص160)، فترفض خطبة أحمد بن علوان لها، وترد على عتاب أمه بقولها:

"لقد مثت في حب الله، وما أنا إلا نقطة في محيطه الذي لا حدود له ولا نهاية".

الملاحظة الثالثة:

برغم أن الكاتب قام بتهيئة كل الظروف لجعل حُسن تصبح شخصية صوفية، لعلها تجد طريقتها الخاصة وتصبح من السالكين، إلا أنه لم يجعلها تصل إلى هذا الحد، بل إنه لم يجعل أحمد بن علوان يتعاطف حتى مع مسلكها الاستثنائي هذا، فهل أحجم الكاتب عن تطوير الشخصية إلى هذا الحد لمخاوف منها قلة الحضور النسائي في سلك التصوف؟ كان من الممكن أن يزيد الكاتب في تطوير وتعقيد الشخصية بفتح تساؤلات عن النساء اللواتي امتلكن كرامات واشتهرن بالمحبة الإلهية كرابعة العدوية وسلطانة الزبيدية، وجعل حُسن شخصية صوفية على غرارهن.

 

ملاحظات عامة على الرواية

افتتاحية الرواية لم تكن موفقة، فلم يكن الكاتب بحاجة إلى تصور رفض أحمد بن علوان لما حدث من تقديس لضريحه بعد وفاته، لأن هذه الافتتاحية التبريرية قد قللت من وهج العمل الروائي.

شخصية نادر لم تضف للرواية شيئًا باستثناء تقديمها معلومات عن كتب أحمد بن علوان وبعضًا من المقاطع التي كتبها، وكان يمكن أن تقدم عبر فرص سرد كثيرة في الرواية، فهل وضع الكاتب الشخصية ليضفي شيئًا من الواقعية على الرواية على غرار ما فعلته الروائية إيلاف شافاق في روايتها "قواعد العشق الأربعون"؟ يقود هذا إلى تساؤل آخر، ماذا لو حذفنا فصول نادر من الرواية، فهل سيختل شيء من بنيتها؟