لماذا منظرو المشاريع التدميرية هم أول ضحاياها؟

بعد حرب 94، التي منعت المشروع الانفصالي التمزيقي المدعوم من الخارج، وجه الكثير من المتعلمين من سكان المحافظات الجنوبية، جهودهم الفكرية لشيطنة الوحدة والترويج للمشروع الانفصالي.

في الجهة الأخرى، وبعد أن نشب التمرد الحوثي في 2004، وظف الكثير من المتعلمين (أكاديميين "مثقفين" وناشطين)، وبالذات المحسوبين منهم على تيار اليسار، جهودهم الفكرية وعلاقاتهم بالعالم الخارجي والمنظمات الحقوقية وغيرها، للدفاع عن الحوثيين، نكاية بنظام الرئيس صالح، أو قصر نظر نابعة من أيديولوجيات عقيمة أو تعصبات سلالية أو جهوية.

كان المبرر الرئيسي الذي ساقه كل من شيطن الوحدة، ودافع عن الحوثي، يتمثل في سوء نظام علي عبدالله صالح وفساده. وهو السوء والفساد المرتبط أساسًا بحالة دولة متخلفة مثل اليمن، ضمن تخلفها الحضاري وشحة مواردها، ونسقها الثقافي/ الاجتماعي. ومع صحة وشرعية النقد الذي كان يوجه لنظام صالح؛ إلا أن تأييد مشروع عنصري تمزيقي مثل المشروع الانفصالي، والدفاع عن حركة ظلامية كالحوثي، يعتبر جريمة بكل المقاييس، وغباء منقطع النظير، حسب ما أكدته التجربة.

فسوء نظام صالح، كان أفضل من تفكيك الدولة واستباحتها من قبل الأجنبي، أو تسليمها لعصابة عنصرية متخلفة كالحركة الحوثية. كما أن نظام صالح كان قابلًا للتغيير كما حدث في 2011/2012، فيما إعادة بناء الدولة اليمنية بعد تفكيكها، وطرد الأجنبي، أو التخلص من نظام شمولي كالحوثي، هو أمر صعب ومكلف جدًا، وقد يأخذ فترة طويلة تمتد لأجيال.

والشيء الملفت أن معظم الناقدين لفساد ومساوئ نظام صالح، توقفوا عن نقد خليفته هادي رغم أنه كان أكثر فسادًا، وأقل كفاءة من سلفه. وهذا يؤكد على أن نقدهم لصالح لم ينطلق من اعتبارات موضوعية ومواقف مبدئية، وإنما من تعصبات مناطقية وسلالية وعماء أيديولوجي.

وما يهمنا في هذا المقال هو مخرجات جهودهم عليهم أنفسهم؛ فكل هؤلاء، باستثناءات لا تكاد تذكر، تدهورت أوضاعهم المعيشية والاجتماعية، بعد أن نجحت المشاريع التي نظروا لها بشكل أو آخر. فكل المتعلمين في المحافظات الجنوبية، أصبحوا تحت حكم جهلة الريف وصعاليك المدن، الذين صعدوا بفضل تفكك الدولة وسيطرة الأجنبي على تلك المحافظات. كما أن مستواهم المعيشي تدهور بشكل كبير، فيما انخفض سقف الحريات، أو انعدم تمامًا، تحت حكم أمراء المليشيات.

وكان الأكثرَ تضررًا منهم، متعلمو عدن ومثقفوها ممن ترجع أصولهم إلى المحافظات الشمالية؛ فمنذ ما بعد 2015 أصبح هؤلاء مهمشين، ويمارس ضدهم كل صنوف العنصرية والتمييز، ولم يعد مسموحًا لهم الحصول على أي منصب قيادي، أو حتى وظيفة إدارية إلا في ما ندر. والأمر اللافت، أن الكثير من أبناء المتعلمين في هذه المحافظات من أكاديميين ومثقفين، لم يجدوا فرص عمل محترمة، ولم يواصل أكثرهم تعليمهم، وتحولوا إلى عسكر ومرافقين لأمراء المليشيات.

وفي الشمال، كانت الصورة أسوأ من الجنوب بكثير، فكل المتعلمين الذين دافعوا عن الحوثي وشكلوا طابورًا خامسًا له قبل سيطرته على صنعاء، من "مثقفين" وناشطين وأكاديميين، باستثناء قلة، وتحديدًا من المنتمين للسلالة، جنوا مصيرًا أسود من الحوثي، ومن الأوضاع التي أنتجها. فقد كان مصيرهم إما الفرار من مناطق سيطرة الحوثي، أو القمع والإذلال من الحوثي، كما هو حال أحمد سيف حاشد وعبدالوهاب قطران وغيرهما ممن كان يدافع عن الحوثي.

فيما أوضاع المتعلمين المعيشية أصبحت لا تطاق، بدون رواتب، ونقص خدمات، وتضخم مالي مفرط. والأسوأ من ذلك أنهم أصبحوا بدون كرامة أو قيمة اجتماعية، بعد أن أصبح مشرفو الحوثي عديمو العلم والتربية هم من يتحكم بهم.

إن سبب تضرر منظري المشاريع التدميرية أكثر من غيرهم، يرجع إلى طبيعة هذه المشاريع وطبيعة من ينفذها. فالمشروع التمزيقي لليمن هو في الأصل مدفوع من قوى خارجية، وهو لذلك مشروع ارتزاق للخارج، كما أنه مشروع عنصري ضد جزء كبير من اليمنيين. ومشروع الحوثي بطبيعته مشروع ظلامي متخلف وعنصري، ويقوم على خرافات دينية. ومشاريع بهذه المواصفات لا يتم تنفيذها إلا بالعنف والعمالة للأجنبي والخداع والدعاية الرخيصة.

ودور المتعلمين يكون مهمًا حين تكون هذه المشاريع في طور التشكل، إذ إنها تحتاج إلى من يصيغها في قوالب جميلة، ويمنحها مسحة أخلاقية، وهدفًا نبيلًا. وهذا ما قام به المنظرون الذين نتحدث عنهم في هذه الورقة. أما في مراحل التنفيذ، فإن هكذا مشاريع تتطلب شخصيات بمواصفات مختلفة تمامًا، أهمها الجهل والاندفاع وسوء الخلق، وضعف الحس الجمالي والإنساني، واستسهال استخدام العنف.

وبما أن المتعلمين هم أقل قدرة على ممارسة العنف، وأكثر حذرًا، وبعضهم يحمل درجة ما من الأخلاق والمسؤولية؛ فإنهم عمليًا يتوارون إلى الخلف، وقد ينتهي دور معظمهم تمامًا في هذه المرحلة أو مرحلة نجاح هذه المشاريع. ولهذا وجدنا تناقصًا مستمرًا للمتعلمين حين بدأ المشروع الانفصالي في التحول من مرحلة التنظير إلى مرحلة التنفيذ في المحافظات الجنوبية، وبعد سيطرة الحوثي على صنعاء.

قد يقول قائل إن هؤلاء المنظرين انخدعوا بشعارات الانفصاليين والحوثيين، وأنهم بذلك لا يتحملون مسؤولية ما حدث، وأن نواياهم كانت حسنة. والحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فهؤلاء ليسوا من الجهلة أو العوام، حتى يعذروا لجهلهم، فما كان لديهم من معرفة كانت كافية ليكتشفوا قبح نظام الحوثي، الذي كان يجاهر به في أدبياته، كما أن ممارساته الشمولية الطغيانية في محافظة صعدة كانت واضحة، قبل عامين من وصوله صنعاء.

كما أن المنظرين للانفصال، وتحديدًا ممن لهم أصول شمالية، كانوا مطلعين على الخطاب العنصري القميء الذي رافق المشروع الانفصالي من يوم مولده ضد كل من يحمل جينات شمالية. إلى جانب معرفتهم بخطط الأجنبي لتمزيق اليمن والسيطرة على كل اليمن أو المناطق المفيدة له.

إن طرحنا لهذه الحقائق ليس الهدف منه التشفي في من روج للمشروع الانفصالي ودافع عن الحوثي، وإنما إيضاح خطورة التماهي مع أي مشروع صغير يمزق الوطن، نكاية بهذا الطرف أو ذاك، أو التوهم بإمكانية تسخير هذه المشاريع الشريرة لبناء مشاريع خيرة. فالمشاريع القبيحة في طبيعتها لا تنتج إلا القبح والدمار، هكذا يقول العقل والمنطق لكل من لديه حس إنساني بسيط.