الرد السديد على الأستاذ أحمد عصيد

استمتعت بمشاهدة فيديو تضمن مقابلة في قناة "سكاي نيوز عربية"، بشأن "الإعجاز العلمي الإسلامي"، أجرته القناة مع الكاتب والناشط الحقوقي الأستاذ أحمد عصيد.

وفي هذا الخصوص، وددت أن أقدم قراءتي حول المقابلة، مستهلًا كتابتي بتقديم معلومات ذات صلة لإثراء الموضوع ودحض ما ذهب إليه الكاتب والناشط الحقوقي من مغالطات.

حقيقة، إنه غاب عن الكاتب أن الدولة العربية -الإسلامية كانت انطلاقة لحضارة سامقة الأركان تمتد من الصين شرقًا إلى شبه الجزيرة الإيبيرية غربًا [إسبانيا والبرتغال (الأندلس)].

من البدهي أن كل حضارة جديدة تأخذ من الحضارات السابقة كل ما هو مفيد، وتضيف إليها كل ما يستجد في ميادين الاختراعات وسائر العلوم والمعرفة.
ومن الجدير بالذكر، أن من كانوا يعيشون في أمصار الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف، من علماء، ومثقفين، ومخترعين، يتكلمون اللغة العربية بإجادة، وإتقان، ويترجمون إلى اللغة العربية علوم الحضارات التي سلفت، مهما اختلفت أصولهم ومشاربهم الاجتماعية، إلا أنهم ينتمون إلى هذه الدولة العربية الإسلامية التي ينضوون تحت لوائها العربي الوارف بالعدالة والسلام والاستقرار، فأصبحوا عربًا بحكم نشأتهم، ولغتهم، وثقافتهم، ومواطنتهم.
وبكل تأكيد إنهم يخترعون ويؤلفون باللغة العربية من منطلق انصهارهم السكاني لعدة قرون في أنحاء هذه الدولة الشاسعة... الخ.

وما نشهده اليوم في الحضارة الغربية الحديثة: حضارة التكنولوجيا، والفضاء المفتوح، والقرية الكونية، يعتبر نسخة مماثلة في المسيرة الحضارية، لم تأتِ من فراغ، والشيء بالشيء يذكر، فـ"سكان الولايات المتحدة الأميركية" عبارة عن بوتقة انصهار حضاري سكاني من مختلف أصقاع الأرض، تجمعهم الجنسية الأميركية واللغة الإنكليزية -الأميركية، والمواطنة الأميركية المتساوية، وبالتالي، إن كل إبداع أو اختراع لمواطن أميركي يسجل باسم الولايات المتحدة الأميركية وبلغتها، ويترجم إلى اللغات الأخرى، وأصبح الناس لا يميزون بين مخترع أصوله وجذوره عربية وإسلامية أو إيطالية أو ألمانية أو يابانية أو إسبانية أو إيرانية... الخ.. أو غيرهم من سائر أنحاء المعمورة، فكلهم أميركيون في نهاية المطاف بعد أجيال متعاقبة قضوها في هذه الدولة الحديثة التي لا يزيد عمرها بعد توحيد الولايات المتحدة الأميركية، عن ثلاثة قرون ونيف.

حقًا، إن هناك أمورًا كثيرة تدحض ما قاله الكاتب والناشط الحقوقي أحمد عصيد، في حديثه المتأثر بأفكار خيالية، حيث صار حديثه للأسف الشديد منصبًا ومقتصرًا على ما سماه "الإعجاز العلمي المختلق" من قبل الإسلاميين في القرن العشرين -على حد قوله- في محاولة منهم لتغطية قصورهم، وتقليص الفوارق بين دولهم المتخلفة مقابل الدول الغربية المتقدمة، وبهدف استقطاب مؤدلج للشارع الإسلامي دون الخروج من قوقعة التخلف إلى آفاق أرحب من شأنه تنوير المجتمع العربي الإسلامي علميًا ومعرفيًا لردم الفجوة بين تخلفهم وبين الحضارة الغربية.

المشكل، أن المسألة أصبحت تقاس بأنه لا يوجد تفريق ما بين الإسلام كدين قيم، وأخلاق، وحضارة، وبين إسلام مؤدلج غربيًا في المنطقة العربية -الإسلامية منذ الغزو الصليبي البريطاني -الفرنسي -الهولندي -الإسباني -البرتغالي -الأميركي، قبل أربعة قرون للمنطقة وسائر أنحاء البسيطة، وتبنيهم جماعات، ومذاهب، وعقائد، وآراء متطرفة لا تمت للإسلام بصلة، قاموا بتربيتها، وحرفها عن جادة الحق والصواب، بل تغذيتها في القرن العشرين بأفكار هدامة، وتصديرها لتكون الضربة القاصمة على بلدان المسلمين، بل نخر التعاليم والقيم الإسلامية السمحاء.
إن القضية بحد ذاتها إجماع حكومات غربية، ومن يدور في فلكها، للمضي قدمًا في هذا التوجه، والإصرارية على الخلط بين "الإسلام الحنيف" والحضارة الإسلامية والإبداع في شتى العلوم والمعارف من ناحية، وبين "الإسلام السياسي وتزمته وكره الآخر"، أي بين بناء وتنمية الأوطان من جهة، وبين معول هدم وتخلف الأوطان من جهة أخرى، والغاية منه تشويه ومحاربة "الإسلام الحنيف" الذي بدأ ينتشر في عقر أميركا، وأوروبا عامة، ودول آسيوية خاصة، ويأخذ مكانه الرحب في تلك المجتمعات.

في واقع الأمر، إن مكمن الخطورة هو الأدلجة الإسلامية، والخلط أيضًا بين مفهوم الدين "الإسلامي الحنيف" كمقوم للحضارة الإنسانية والإبداع العلمي والمعرفي، وبين مفهوم الحزبية الإسلامية وتسييس الدين للاستئثار بالسلطة، والثروة، تحت مسمى الخلافة والوصاية، ومفاتيح الجنة، والحق الإلهي في الحكم... الخ. كلها معانٍ لا وجود لها في الإسلام استثمرها الغرب، وعززها بحقد دفين، بل انتهزها لمواصلة حربه الصليبية -الصهيونية الجديدة للانقضاض على ما تبقى من "الدين الإسلامي الحنيف"، ومنع انتشاره بتسميات ومصطلحات "ما أنزل الله بها من سلطان".

وليس بمستبعد أن يصل بهم الأمر إلى القضاء على مقدساتنا الإسلامية بحجج وذرائع شتى، الأمر الذي يخططون له بدقة. هذا غيض من فيض، والله على ما أقول وكيل.

وفي الختام، لا يسعني إلا أن أردد قوله تعالى: "... ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، صدق الله العظيم (الآية 30، سورة الأنفال).