جار الله عمر: تأملات بعد واحد وعشرين عامًا على اغتياله

أتذكر كشاهد عيان أنه بعد وفاة قيادي حزبي لم يكن من الحزب الاشتراكي، وكان في عز شبابه في عام من أعوام الثمانينيات، أن رفاقه دقوا صدورهم وذرفوا دموعهم، ووعدوا في لحظة حزن كانت صادقة في تلك اللحظة المهيبة، أنهم سيكونون لأسرته الأب والإخوة، ولكنهم لم يفوا. حدث هذا مرة ثانية مع أسرة زعيمهم الشهيد.

لم يقل أحد وقتها بسبب حالة القمع التي كانت خبزًا مرًا للأحزاب، أي شيء عن مواصلة السير في طريق نضال الفقيد الأول لتحقيق أهداف الحزب الخ. نفس الأمر يتكرر مع جار الله شخصيًا، وليس مع أسرته التي لم يستشهد جار الله إلا وقد خلّف شابين قادرين على تحمل مسؤولية الأسرة. بعد واحد وعشرين عامًا حان لقيادة وقواعد حزب جار الله، أن يمارسوا ما يقال بالإنجليزية Soul searching، محاسبة النفس أو النقد الذاتي، وأن يسألوا أنفسهم هل وفوا بوعودهم له، بـ: س.و.س و.س. أي سنواصل النضال على دربه الخ.

بعد اغتياله لاتزال ترويسة الثوري صحيفة حزبه تحمل بعد واحد وعشرين عامًا صورته وعبارة "لن يمروا". وها قد مر القوم الذين أسهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في اغتياله، ومر غيرهم غير المختلف جوهريًا عنهم، والحزب باقٍ في مكانه، وهؤلاء جميعًا على نقيض تام مع فكر جار الله وحزبه، وهم اليوم الأعلون ومن قادة اليمن في المستقبل القريب. بينما أضحى حزب جار الله شريكًا هامشيًا ينتظر حسنة سياسية صغيرة من الغير. الحزب ضعف في العشر السنوات الأخيرة، ليس بسبب الانقلابات والحروب التي شنت ضد اليمن في 26 مارس 2015، وطالت شظاياها قواها السياسية والاجتماعية الحية، ولكن لسبب داخلي أيضًا يتصل بأداء ومواقف الحزب قيادات وقواعد، ومنها هجرة قياداته الطويلة وبقاؤها خارج اليمن في أحلك ظروف الحزب وأدق مراحل الوطن، رغم وجود محافظات آمنة أو شبه آمنة يمارس فيها محافظوها ومواطنوها حياتهم بأمان، ويمكنهم لو أخلصوا النية ممارسة مسؤولياتهم الحزبية التي كانت توصف في السابق بـ"النضالية" فيها، والتي كانت تتم في ظروف حزبية صعبة من المراقبة والتضييق والسجون والتعذيب والتهميش الوظيفي والضغوط المالية والتشويه الإعلامي والسياسي، توجت بالتصفيات الجسدية قبل وبعد الوحدة.
حزب الإصلاح حول مأرب إلى محافظة هو من يقودها فعليًا، وليس الشرعية، وكان حريًا بالاشتراكي أن يجعل من مأرب التي نمت سكانيًا وحضريًا نموًا لافتًا، مقرًا لقيادته، لأن الهجرة، وبخاصة إذا طالت، واسترخى مريدوها، تصبح ترجمة فعلية لمقولة يمنية بسيطة، هي أن "الغائب عن الناظر غائب عن الخاطر". بمعنى فقدان الحضور والفاعلية وهما عصب العمل الحزبي.
عندما استشهد جار الله في 28 ديسمبر 2002، قرأ الكل سورة الفاتحة له، ورفعوا أصواتهم، وسنوا أقلامهم، متعهدين بالوفاء لميراثه النضالي ولوصاياه السبع في المؤتمر السنوي لحزب الإصلاح الذي اغتيل في مكان انعقاده، ورتب اغتياله فيه بعناية من قبل الطرفين المستفيدين من غيابه ومن انتهاء دوره الحزبي القيادي والوطني بشكل عام، ومن إضعاف الاشتراكي. حتى حزب الإصلاح الذي وُثِّق دور العديد من عناصره في الاغتيال مع جهاز الأمن وقائده غالب القمش، تهيئة وتمويلًا وتنفيذًا، أعلن أنه سيجعل من خطاب جار الله و"وصاياه السبع" برنامجًا له، لم يفِ بما وعد. أما حزبه فقد فعل الزمن فعله بقياداته وعلاقتها بقواعده في الداخل، كما يفعل الزمن بعلاقة المحبين التي يقال إن الزمن وحده كفيل بقتلها.
جار الله طالب في وصاياه الأشهر في تاريخ اليمن السياسي، ودفع حياته ثمنًا لمواقفه ولبناء يمن ديمقراطي حداثي تعددي مواطنوه متساوون، ولكن الوفاء كان ولايزال في أضيق نطاق، وتم الاكتفاء بترويسة "الثوري" ومقالات لا يكتبها في ذكرى اغتياله قياديون فيه، بل الأوفياء من أعضائه، لأن القيادي يرى نفسه قياديًا على جار الله نفسه، وهو في رحاب الله. جار الله ليس بحاجة إلى شهادة بأنه ضحى من أجل حزبه ووطنه، وتلقى تهديدات ومحاولات باغتياله، وبالأخص بعد حرب 1994، وأنه لم ينثنِ ولم ينحنِ ولم يجبن. كان من أهداف حرب 1994 اجتثاث الحزب وقياداته نهائيًا، وقد كان بقاؤه القصير في القاهرة عقبها مريحًا للسلطة التي راودته في ما بعد بمنصب سفير، ولكنه لم ولن يقبل و"حزبه مهزوم" على حد تعبيره.
الضرورات القاهرة لبقائه في القاهرة وافقت عليها قيادة حزبه، وعندما عاد إلى وطنه، ووطن الحزب، كان كل همه لم شمل الحزب، ومنع تصدعه، وإفشال رغبة الرئيس الراحل صالح بالقضاء عليه واجتثاثه، أو على الأقل تقسيمه إلى حزبين شمالي وجنوبي في أحسن الظنون بالرئيس. كان جار الله يعلم مدى كراهية الرئيس صالح ومؤتمره "الشعبي" الاستخباراتي، للأمين العام للحزب علي صالح عباد (مقبل)، بحجة أنه متشدد، أي غير مطواع، وتفضيلهما لتولي جار الله الأمانة العامة لمرونته. جار الله كان يعي تلك الحقيقة، وأنقل على لسانه قوله إن ذلك ليس حبًا فيه، ولكن لتقسيم الحزب، وأنه ليس طامعًا في الأمانة العامة، ويحترم قيادة مقبل.
عاش جار الله في صنعاء وحياته مهددة في كل لحظة، وكان يتحرك بدون حراسة، وقد اعتذر عن عدم قبول عرض من الرئيس صالح لحراسته حرصًا على حياته! مع سيارة صالون تليق بمقامه، واعتبر ذلك فخًا متعدد الأهداف. كان من أهداف صالح إضعاف فاعلية وحضور الحزب في الشمال، وفي شمال الشمال بشكل خاص. وعندما عبر الحزب عن رغبته بعد الوحدة بضم عناصر قيادية شمالية من التي كانت مقيمة في الشمال قبل الوحدة، إلى سلطة المناصفة أو التقاسم، هدد صالح الحزب بأنه سيدخِل عناصر ملكية إلى السلطة إذا أصر الحزب على موقفه، وأنا أنقل هذا عن جار الله نفسه.
كانت محاربة وجود مقرات ونشاط للحزب في محافظات شمال الشمال، استراتيجية صالحية -قبلية، وخطوة أولى لإضعافه وإلغاء وجوده تمهيدًا في حالة الفشل لتقسيمه إلى حزبين شمالي وجنوبي. مبدئيًا كان علي صالح والشيخان الأحمر والزنداني ضد وجود حزب اشتراكي واحد، بل ضد الاشتراكية، رغم بؤس خلفية الأول الاجتماعية، ومعاناته من الفقر. ولتحقيق مبتغاه حاول صالح بعيد الوحدة توحيد مؤتمره مع الاشتراكي ليصبحا حزبًا واحدًا بقيادته وتحت هيمنته. ومن نافلة القول أن الراحل الشيخ عبدالله الأحمر حارب وجود الاشتراكي في محافظات شمال الشمال.
اليوم يراد للحزب أن يصبح حزبين، وهناك من ينفذ رغبات صالح، بل من يزعم، صح ذلك أو لم يصح، بأن قيادات حزبية رفيعة تقف مع الانتقالي ومع الانفصال لبدء نضال جديد لبناء يمن واحد مختلف عما تم عام 1994!
الأزمات تشحذ همم القيادات للتغلب عليها، والسير إلى الأمام. أزمات الاشتراكي ليست جديدة، فقد وجدت وهو يحكم الجنوب، ولكن ما يعانيه حاليًا ناتج عن غلطته الكبرى بتحقيق الوحدة مع نظير مناطقي غير وحدوي، كان دفن الحزب حيًا أو ميتًا، هدفه الكبير. لقد تعمقت أزمات الحزب وتوسعت، وتضاءلت فاعليته، ولم يعد وجوده كما ينبغي أن يكون. لا شك أن حرب عام 2015 فعلت فعلها فيه وفي نظرائه برغم اصطفاف قيادته مع دول العدوان. هذا الاصطفاف لم يشفع له، لأن أهداف هذه الدول لا تختلف في قليل أو كثير عن أهداف الرئيس الراحل صالح، إضافة إلى جعل اليمن كلها ضعيفة ومشلولة. لقد مكنت قيادات الحزب كل هؤلاء من تحقيق أهدافهم، بوعي أو بغير وعي، وسارت كما سار نظراؤها في استجرار منجزات الماضي، وأغفلت الحاضر ومتطلباته وتحدياته، أما المستقبل فعلمه عند الله.