القاتلوجيا: حرب "الألجاع" في اليمن

صنعاء خلال احتجاجات العام 2011
صنعاء خلال احتجاجات العام 2011 (تصوير أروى عثمان)

أنا من بلاد القات مأساتي تضج بها الحقبْ
مازلتُ أغسلُ في مياهِ البحرِ، أشربُ في القِرَبْ
قدمايَ حافيتانِ، عاري الرّأسِ، موصولُ السَّغَبْ
الشاعر عبدالعزيز المقالح

أتذكر تحديدًا تاريخ 17 فبراير 2011، قبل وجود ساحات الاحتجاج، وهي ما تسمى حادثة الرباط، حيث اشتعل واستعر شارع الرباط مع شارع الستين وما حوليهما من الشوارع الجانبية والحارات، بالرصاص والنيران والهتافات، والضرب بالعصي، وإغلاق المحلات، وسيارات الإسعاف، والجرحى، وإحراق براميل القمامة، والأدخنة، والقذف بالحجارة. لقد كان أبطال هذا الجموح العنيف هم: شباب "الثورة وإرحل"، وأتباع النظام، أو من يطلق عليهم "البلاطجة" آنذاك.

جولة الرباط على الخط الدائري - من أحداث العام 2011
جولة الرباط على الخط الدائري - من أحداث العام 2011 (عدسة اروى عثمان)

هل تصدقون، حتى السقوف والشبابيك والشواقيص لم تسلم من ذلك العنف، -طبعًا- "معنا ثورة"، يقول المنتشون للطرف الثوري، و"معنا دولة وفي نظام ودستور" "الطرف الصالحي".

صحفيتان أوروبيتان في صنعاء إحداهما الهولندية التي تعرضت لاختطاف (بعدسة أروى عثمان)
صحفيتان أوروبيتان في صنعاء إحداهما الهولندية التي تعرضت لاختطاف (بعدسة أروى عثمان)

في ذلك اليوم -الجحيمي، ولأول مرة في حياتي، أشهد مثل ذاك العنف والحريق، والرصاص، والأدخنة، والخوف حد الهلع… الخ، اختبأت مع صحفيتين أجنبيتين، في استديو للتصوير أذكر إحداهما كانت الصحفية الهولندية التي تعرضت هي وزوجها للاختطاف في ما بعد، اسمها يوديت سبيخل.

سعيد محسن غالب العبسي صاحب استوديو الرباط
سعيد محسن غالب العبسي صاحب استوديو خالد بشارع الرباط.. توفى قبل سنة رحمه الله وعلمتُ بوفاته بعد كتابة هذا المقال (أروى عثمان)

كان الخوف يسيطر علينا، لكنه يتخفف أمام طيبة وحنو صاحب المحل.

كنتُ أفتح ردهة باب المحل، والمعارك حامية الوطيس، والجموع تفترس بعضها، بالأسلحة  وبكل ما هو موجود وما تحمله أياديهم من عصي وحجارة، إطارات السيارات المحترقة، وما تقذفه أفواههم ليس فقط بالشعارات، بل من شتائم مقذعة، حتى الأسوار الحديدية لشارع الستين أسقطت أمام هستيريا قطيع "العنف الثوري"، و"العنف المضاد".

من صدامات المعتصمين ومناصري النظام في 2011
من صدامات المعتصمين ومناصري النظام في 2011 (عدسة أروى عثمان)

ونحن نتلفت لبعضنا البعض داخل المحل، كانت الصور الفوتوغرافية المعلقة على الجدران تؤنسنا وتبدد الوحشة وصراخ الوحوش إذا حُشرت.. وفجأة هدأ الكل -الخارج!

شجينا الباب "تخاوصنا"، رأينا شارات الأعلام البيضاء ترفع، وإشارات بالأيدي بعضها تحمل ميكروفونات يدوية، تقول: توقفوا! كان وقت الاستسلام، أو ب

معنى الراحة وأخذ النفس، فماذا جرى؟

كانت الساعة 12 والنصف ظهرًا -تقريبًا- وفي الميقات اليمني والثقافة، معروفة ماذا يعني هذا التوقيت، فلقد حان موعد الغداء والتخزينة: التلجيع الثوري لـ"إرحل والشعب يريد أسقاط النظام"، والتلجيع المضاد، لنظام صالح، وشعارهم "لا تمديد ولا توريث"، و"الشعب يريد صالح والنظام".

ورأينا كلا الطرفين المتشنجين والمتقاتلين، يتساوون أكانوا من أصحاب البدلات أبو كرافتة، أو العسكر والأمن، أو المحشرين أصحاب الزنن والجنابي، أو المسرولين بالجينز والكجوال، تلك الجموع الهائجة،  وهي تنزل من على الجسر الذي أسقطت أسواره الحديدية، ومن الشوارع الرئيسية والخلفية، فقد كانوا يمشون ويسلمون على بعض، ويتكلمون معًا، ويضحكون ويزبجون، وكأن شيئًا لم يكن، إنها "صورة ما بعد السيريالية، ولا تحدث إلا في يمن الإيمان والحكمة".

أمام ما حدث، ظللت لأيام "مقعية"، مشدوهة لا أعرف ما الذي حدث ويحدث، ليترك بعدها شارعي الرباط والستين متخففًا من العنف، خلا مخلفات عنف الفجيعة، الرصاص والحجارة، والحرائق، والأشياء المحطمة، والإطارات المشتعلة، بما فيها صناديق القمامة المحترقة و… الخ، وأنا أشاهد المناظر، كأن كائنات من الجن والجراجيف كما تقول الحكايات الشعبية، قد عبثت بالناس والعمران، وتركت خلفها آثار العنف الهستيري: الستينيون: "معنا ثورة ومن قرح يقرح"، والنظاميون: "معنا صالح ومن غضب يفتض من الشقين".

 

(2)

الكائن القاتلوجي، يبرمج جسمه وعقله، وروحه، وكل ما حوله على الساعة 12 ظهرًا، إنه التوقيت الموحد للبجم، المهدئ والأنيس المؤقت، إلى حين، حتى تتعبأ غرائز العنف من جديد، تلك السلمية السريعة كان الفضل فيها للعلفة/ القات التي ستشحن داخل الألجاع الإلهية لسكان بلاد القاتلوجيا: "من يشبهك من"!

نعم، في غمضة لجع تنبثق المواطنة المتساوية، والأخوة، والصداقة، وبلا "ارحل"، أو "صالح للأبد".

أمام الفانتازيا، وأنت ترى القاتلوجيين، وهم يلتفون أمام مدرة السلتة، ثم التخزينة، ونخش الضروس، والتجشؤ المنفلت، وما يلحقها، الحوقلات والاستغفارات، لن تصدق أنهم كانوا يقتتلون وينشرون الرعب والدمار!

من صدامات المعتصمين ومناصري النظام في 2011
من صدامات المعتصمين ومناصري النظام في 2011 (عدسة أروى عثمان)

ولنا عشرات المشاهدات والحكايات من 2011، كيف أن فريقي الحرب والخراب: (صالح ومحسن)، كما حدث في شارعنا "شارع هائل"، نعم، تكرر نفس السيناريو، يتقاتلون بالنصاع والمعدل والمقذوفات والراجع، وعشرات المتاريس والدُّشم في شارع هائل والحارات، ثم يتغدون ويخزنون معًا، وبعد الساعة السليمانية يرجع كل فريق إلى متراسه، ويبدأ القتال، الذي لا ينتهي، إلا بـ"التفذيحة" الصباحية في اليوم الثاني، أو الساعة 12 ظهرًا.

أتذكر بعض المتاريس التي كانت تطل من نوافذ فندق "بانوراما"، وما حواليه، وكانت تتبع "صالح"، ودشم "حماة  الثورة". تلك المتاريس لا تفرق بينهم سوى خطوات فقط، ليبدأ القصف، ويسقط الضحايا، كانت تلك الفترة هي عنوان شارع هائل المدمى من نصال "الإخوة الأعداء"، وعنوان اليمن ريفًا وحضرًا، وحتى اللحظة.

نعم، هكذا هي متوالية ألجاع الحرب والسلم الهش، إذ تناديهم غريزة "التلجيع" في الساعة الثانية عشرة ظهرًا، تبتهج أساريرهم، تجدهم يزبجون، وينفسون لبعضهم في المقايل، والدشم، والأرصفة الخائفة، وعند الكامبات التي بلا كهرباء، ونفس الغريزة إذ تناديهم، حان القتال فاقتلوا واقتتلوا!

 

(3)

كان كل شيء موحشًا في شارع هائل، الذي غادره السكان، وتركوا بيوتهم، ليحتلها "القاتل-لوجيين" للستين الثوري، والسبعين "النظامي"، يسقط الضحايا بعد خلث القات، أي أفول الساعة السليمانية، التي كانوا في أتونها ينتشون بدسم الخرافات وفائض جنون العظمة، "االله ما أعظم هذا الشعب"، و"الحكمة اليمانية وإيمانها الإلهي"، "الشعب الأصيل"، "أصل العروبة والإيمان"، "أفتخر أنا يمني"، "سجل أنا يمني"، "اليمن فخر العالم"، والإكليل، والقيل… الخ من الهذيانات السليمانية.

بالله عليكم، كيف تجتمع تلك الألفة الكاذبة والسكينة، وكل هذا التوحش والدموية عندما تسمن البجم وتلمع وتتخدر بالفردوس الأعمى، ثم يذبل فتتفجر الغرائز بكل شيء يخطر على بالك؟!

لا ننسى "الأرق أفئدة" للقاتل-لوجي، في خضم الاقتتال، كانوا ينصحوننا: "انتبهوا وأنتم تمشوا في الشارع والأزقة، أن تلصوا ضوء الإتريك"، فسنطلق الرصاص، فالضوء إشارات الخونة للطرف هذا وذاك.

إنها ألعاب الخفة على المواطن الضعيف، الذي إن لم يسقط برصاص هذا الطرف، فإنه سيسقط برصاص الطرف الآخر، وإن نجا منهما فصدمات الخوف علامته الأبدية، أما البيوت فهي بلا كهرباء منذ أزمان، فمن أين سيأتي الضوء في بلاد الغدرة؟!

 

(4)

بلد القاتلوجيا، تجتمع فيه كل التناقضات، وتتوحد كل الغرائز بلجع واحد، وتنفلش بخلثة لجع ملعوص، مخدور ومجدور. القاتلوجي، في غمرة "عودي/ علفة"، يخاف على البلاد والعباد، تجدهم قد أصبحوا مثل الأمهات والآباء يخافون على أولادهم، ويداعبون عوائلهم، ويلبون لهم أشياءهم المؤجلة.

أتذكر أمي كانت تراكم طلباتنا إلى يوم الخميس المقيل العائلي، ثم تبدأ بسكب الطلبات على رأس أبي، وكيف كان مطواعًا، يلبي طلباتنا (أعتقد هذه العبارة ليست مكانها بين القاتلوجيين.. أليس كذلك؟)!

 

تهويشات متفلية:

من ذلك المدكى وتلك الزوة للمقيل والشاقوص وأدخنة المدافع والمدائع والسيجارة معًا، تتمرأ صورة الملجعيين بفوهة المتفل ببصاقه الأخضر اللزج، ليرسم مشهد بناء يمن الجنة، ويهدم أسوار النار والتوحش، والحروب المزمنة، بل يفيض المد البصاقي للحلم اليماني، مثلًا أن الحوثي سيفتح مكة، سيؤدون الصرخة في مقيل البيت الأبيض، أما إسرائيل فستفنى بعودي قات رازحي من ألجاع الله: "يا بندقي عيد بهم"، كما تقول زواملهم، فيحررون الأقصى، ويوسحون عند مثلث برمودا!

أما الطرف الآخر، فسيبيدون قريش وآل البيت، وحضارة قبائل العباهلة والأقيال ستعاد من جديد، وستسبح اليمن في بحور العسل، إذ كل الملجعين بالعلفة من الحوثي والمقاومة والانتقالي، والأحزاب والثورجيين والثورجيين المضادين، والماركسيين، والإسلام السياسي، ووو، كل متكئ على مليشياته الوارمة الأوداج التي تشبههم في الموت والخراب.

أما الملجعون من عامة الشعب، فلهم مشاريعهم تتقاطع مع مشاريع الملجعين أعلاه، ففي غمضة لجع حجري: ستغدو "تنكا بلاد النامس" المدينة الفاضلة: سنعمل سكك حديدية ليس بين المدن، بل بين الأزغاط، والغرف والديم والمطابخ، وسيرصفون الطرق بالإسفلت الذي يبقى 1000 عام دون أن "يقتش" بمطرة واحدة، سيشجرون المدن بالزهور والزنط الحيسي، سيبنون المصانع في كل جبل ووادٍ، وسيحررون الشوارع بغمضة عين من البالوعات والقمامات، بل سيعاد تدويرها وتتحول مدننا إلى ناطحات سحاب، سيرصفون الطرق بالإسفلت الحريري وبالذهب.

وبغمزة لجع سيبنون المدن السكنية للمهمشين والفقراء، أبوابها من ذهب وعقيق، سيختفي اللصوص من البلاد، أما المشايخ فسيمشون بلا مرافقين وحرس من فيالقهم المسلحة، وسادس الخلفاء الراشدين، علي عبدالله صالح سيُبعث من جديد، أحدهم يقسم بأغلظ الإيمان إنه رآه في حلمه متكئًا على العرش، لجع آخر، يقسم بأنه رآه يتسوق ويأكل بُرعي في باب اليمن، وعلي محسن والمجلس الرئاسي يحكمون من قصور الرئاسة في صنعاء وعدن، وقد استعادوا الدولة المدنية، الفاضلة على أسس أفلاطونية وفارابية.

أما دك الحوثي فيشتي له بس "نفخة"، "دعسة" وينتهي، وسترجع الكهرباء وتنتهي موتورات الموت والدخاخين، وستفتح مدارس وأكاديميات تحترم العقل والمعمل والرياضيات والفلسفة والفنون، التعليم في دولة القاتلوجيا، سيفوق التعليم في أوروبا واليابان، بل إن حكومات القاتلوجيا "شرعية، وحوثية، وانتقالية، ووو" تقول: لن تتعاقد مع وكالة ناسا للفضاء، وتتبع جماعة أرمسترونغ، وعلماء المريخ والزهرة، بل يقولون وبملء اللجع الوطني، إنه سيكون لنا وكالاتنا الفد كفناها بالشرشف المستور، وطهرانية العورات المتناسلة، فسنظل نلاحقها، "كيف لبست، ومقاس خطوتها، والمحرم الإلهضائية: "بجم -ناسا"، و"مدكى -نعاسة"، و"سليمانية -فاسا، ومتفل طاسة"، أما الأبحاث الفلكية عن المريخ وصديقتنا الزُّهرة "فطومة"، نسل الرسول، فقي، وخيالات "الشيطان ثالثهم"، وزوامل الموت الطهرانية".

تذكرت صاحب قريتنا الذي كذب على حبيبته الأجنبية ليقنعها بالعيش في اليمن، إذ كان يقول لها: أببب، في اليمن عندما تجوعين، فقط افتحي النافذة، ستهرع عناقيد العنب والتين، تلقمك بدون تعب، وإن عطشت، فستريقك عصير الحياة والجنة، إذ ستمتد ترياقها إلى شفاهك.

صدقته، وظلت عقودًا من الزمن في القرية، تنجب وتكدح، منتظرة عناقيد العنب وعصائرها المنسكبة من النافذة، إلى أن أغلقت بالمنع والحرام، والعورات، ببصمة الأطهار الإلهي: القاتلوجييين.

أخيرًا:

ذات مساء لجعوي في مدن البصاق، سمعت هذه الهذرفة:

إن علماء أوروبا والعقول المتخرجة من أكاديميات وجامعات السوربون وهارفارد ووو، سيعملون شقاة عند مشايخ القبيلة، إيه والله كرانية بالمفرق والجملة.. يا سلااااام.

هل من مزيد...؟

اقرأ أيضاً على النداء:

القاتلوجيا: الانسطال الجماعي في مدن البصاق (قراءة سيميولوجية)