من وحي الجيلاني وزمن المقالح!

غلاف كتاب علوان الجيلاني عن المقالح عبدالكريم
غلاف كتاب علوان الجيلاني عن المقالح عبدالكريم (النداء)

هل بكيتُ أنا الآخر؟
لا أحسد أحدًا على شيء..
لم أحسد أحدًا على الإطلاق..
هذه المرة، قَبضَتُ عليَّ متلبِّسًا بحالة حسد لا مثيل لها...
أما من حسدت؟
ما غيره، علوان الجيلاني الذي يدهشني على الدوام..

اتصال، اتصال، رسالة، واتصال:

أصدرت كتابًا عن المقالح عبدالكريم، أين أضع نسختك؟

قلتُ سريعًا في المكان الفلاني لأذهب أسرع إلى المكان وأحتضن الكتاب وغلافه، بل احتضنت المقالح الذي كنتُ أضعف أمامه كإنسان حميم تسكن البراءة روحه فترى أمامك إنسانًا من ذهب..

كتاب الجيلاني من 156 صفحة، عنوانه جميل "زمن المقالح عبد الكريم"، ذهب بي الى كتاب المساح الذي لا زال متألمًا لإصراره الناشر على أن يكون وقد كان "لحظة يا زمن محمد المساح" وكنتُ اقترحتُ "لحظة يا زمن المساح" هنا للعنوان رنةً خاصةً، ماذا أفعل!!!!

الغلاف جميل، وهنا يهمني أمر الغلاف جدا، إذ هو الذي يأخذ بيدك إلى الداخل..

ما أن بدأتُ أبحر حتى غبت تماما، أخذتني دهشة من العنوان، فقد أسس الجيلاني زمنًا بحاله ملكيته إن صح التعبير تعود لذلك الإنسان الودود...

مدخل الجيلاني جعلني أصرخ في أعماقي:

هل بكيتُ أنا؟

نسيتُ، كيف تعاملتُ مع اللحظة وأنا الممتلئ بالمقالح عبد الكريم، لاتزال كلمات وداد القدسي ترن في أذني:

كم يحبك هذا الإنسان..

لا يزال جوابه في أذني:

سميت نفسي المقالح عبد الكريم

فقد سألته:

لماذا؟

صمت لحظتها

صرختُ في أعماقي:

يا الله ماذا فعلتَ بي يا علوان؟

وعدتُ إلى الصفحة الأولى، أقرأ:

ماتَ صديقي المقالح عبدالكريم، ماتَ صباح الأحد 19 ديسمبر 2021، فجأة توقّف نبضه النبيل، فجأة فارق الدنيا وكأن الرحيل اعتياد يفعله، كما يركب باص "باب اليمن - حزيز" كل يوم.

أهمسُ في أذنه وقد ظهر من باب مكتب مدير التحرير كالعادة ضاحكًا:

يا استاذ من حزيز الى باب اليمن الى الى الى الجراف، أنا تعبت، يقرب مني، أهمس:

لا تاتِ، أنت لستَ موظفًا، أرسل مادتك بالطريقة التي تراها، وتعال كلما زاد شجننا لك لنراك، يُردد:

ما جيش؟

لا تجيش.

يواصل علوان بكائه:

"لم أحزن لرحيله المفاجئ وحده، لكني حزنت أكثر لعدم معرفتي بخبر رحيله في وقته، وصلني الخبر متأخرًا جدًا، بعد أكثر من عشرة أيام..

لم أعرف ماذا أقول؟ وكيف أتصرف؟

 استعصت الكتابة بشكل غادر- هنا أحلق أنا الى سابع السماوات حزنًا..

الأسوأ من كل الحالات السابقة أنني لم أستطع البكاء على المقالح كما بكيتُ عليهم، حتى بيني وبين نفسي لم أستطع البكاء عليه، حتى وأنا أقرأ رسالة تشبه لسعة النار، كتبها لي صديقي الشاعر أحمد السلامي على الخاص "عبدالكريم المقالح يا علوان صديقنا مات"، هنا يرتفع علوان إلى ذروة السماء حزنًا وأنا أحلق معه أريد أن أرى إلى أين سينتهي به وبي!!!..

يعود يقول:

شاهدتُ الرسالة ولم أرد، شعرتُ برغبة في الفرار منها، شاهدتُ خبر "عناوين بوكس" عن صدور روايته (باب اليمن - حزيز) الرواية التي لم يعرف أحد أسرارها ودهاليزها كما عرفتها أنا، مع ذلك أحسستُ برغبة في الهروب. كيف أستطيع رؤية حديث الآخرين عنه، أو مشاركتهم فيه، وقد تحولتُ إلى صخرة تجاه موته؟

أهكذا يرحل كل ذلك التاريخ من الصحبة والإبداع والأسرار دون دمعة تُذرف أو سطر يتأوه؟ سحقًا لهذا الوضع البشري الذي تعيشه يا علوان.

وأنا أردد سامحك الله يا علوان اتعبتني، اتعبتني بعدد السنين التي فيها عرفت ذلك الودود.

أواصل الترحال معه وأنا أردد:

إلى أين تذهب بي يا جيلاني؟!

لكنه لم يعرني انتباهًا، بل ظل يتدفق حزنًا:

"ظل طعم المرارة يتسع بمرور الأيام، أشعر بإنكار نفسي، أريد أن أتبرأ من هذا التبلد المقيت، هذه صخرة بين جنبي وليس أنا. لم أكن أعرف أن مفتاحًا ما كان يلزمني أخرج مما أنا فيه. صورة من ورقة، طلبتُ من ابنتي عصر اليوم أن تبحث عنها بين أكداس من الأوراق والكتب والمجلات.

لم تجد الورقة، لكنها وجدت شيئًا يخص المقالح عبد الكريم، يخصنا معًا هو أنا، مجموعة ملفات من الورق المقوى، بل من أغلفة دفاتر الغياب والحضور المدرسي، تضم قصاصات لنصوص نشرت في صحف مختلفة.

حملتها وجاءت بها إلي، ما أن رأيتها حتى تكسّر غلاف الثلج، رحتُ انشج وأعوي بشكل لا أصدّق الآن أنه حدث.

تسمّرت ابنتي مذهولة قبل أن تمسك بكتفي، بكيتُ كما لم أبك من قبل، بكيتُ حتى غسلت أوساخ الروح كلها. ومن ثم تهيأت للكتابة.

بكيتُ أنا الآن كما لم أبكِ...

تمنيتُ أن علوان يستمر على منوال المدخل...

لكنه والمقالح استأذنا مني وراحا في حوار يخصهم بين دخان سجائر يتلوى وصوت الحارثي يتداخل بالدخان، وأنا أنكمشت هنا... مذهول بما قرأت، مذهول لم أستطع الإجابة:

هل أنا بكيت؟؟

النداء 27 ديسمبر2023
عبد الرحمن بجاش