تجربة أوروبية مثيرة في صنعاء القديمة!

بين ذبذبات الصقيع ووخز الجفاف في كانون الصافية

صنعاء القديمة (شبكات تواصل)
صنعاء القديمة (شبكات تواصل)

الصافية حي صنعاني فسيح يقال إنه كان في غابر الزمن مزارع كروم ولوز وقمح، قبل أن يتحول إلى غابة أسمنتية، فرضها التوسع السكاني المتسارع على صنعاء منذ سبعينيات القرن العشرين، فجرف الأسمنت المتوحش أرضها الواسعة المنبسطة، في ظل غياب الدولة وقوانين التخطيط المدني.

قضيت صيف وخريف العام 2007، في أحد فنادق هذا الحي المطل على الطريق الدائري الذي يفضي إلى شارع تعز، أحد أطول شوارع صنعاء.

الصيف والخريف من أجمل المواسم في صنعاء، بحيث ينسيك جمالهما وندى الأنسام في أيامهما الماطرة والصحوة، مع تجليات فخامة السيد قوس قزح إذا نصب قوسه البديع في السماء، ينسيك كثيرًا من الهموم، بما في ذلك طبعًا هم العيش بين حيطان الأسمنت، على أن هنالك أيامًا ماطرة كثيرًا ما تكون غزيرة المطر الذي يصاحبه تدفق السيول على نحو يضطرك للبقاء في سكنك، وهنالك ينتهز الوحش الأسمنتي الفرصة ليستل سوطه، فيجلدك كلما وجدك محصورًا بين حيطانه. ولكنه مع ذلك تعذيب خفيف يمكنك احتماله، مثلما يمكنك أن تروغ عنه حين الصحو، إما سيرًا إلى ميدان السبعين المريح للنفس في ساعات مشي وفسحة، وإما بالسبارة إلى مرتفعات عصر لترويح النفس من على الشرفات الجبلية التي نحتتها الطبيعة فيه.

بيد أن العذاب المر الذي لا مهرب منه، هو هذا الذي يتربص بك في ليالي كانون الأول/ ديسمبر، إذا هل وتمطى بصلبه على الديار. بين ذبذبات هذا الصقيع المتلاحم مع ذبذبات مناخ صنعاء الجاف، تكشر وحشية الغول الأسمنتي عن أنيابها، للفتك بضحاياها دونما رحمة.

لا شيء يمكنه مواجهة هذا الصقيع الجاف المحصن بحوائط الأسمنت،

لا بطانيات الصوف مثنى وثلاث ورباع، ولا المدفأة التي اشتريتها خصيصًا لمواجهته. تذكرت أني وجهت منذ أواخر الثمانينيات، بعد طواف ماتع في حارات صنعاء القديمة، نداءً إلى المعنيين بالتراث والثقافة، خاطرة تضمنت: "أنقذوا صنعاء من شنعاء". وقصدت بالشنعاء هذه الأحياء الأسمنتية التي أحاطت بها بعشوائية لم تترك شبرًا من حديقة ورد تزين خصر الجميلة صنعاء.

عقب ذلك، قررت الانتقال لصنعاء القديمة، ذات المباني من الحجر أو من الياجور الدافئ، فوق أن بها حمامات ساخنة كثيرة تزيد من طاقة الدفء لديك. في اليوم التالي حزمت حقائبي مرتجفًا. كنت أعرف فنادق في حارة بستان السلطان، لكني لم أجد شاغرًا، فمضيت إلى حارة أخرى، حتى وجدت فندقًا في مبنى قديم (نسيت اسمه).

أوقفت سيارتي، ودفعت الباب للدخول، فإذا المكان مظلم، وبالكاد رأيت موظف الاستقبال على ضوء خافت لنوارة عتيقة.

سألته بمسحة من خيبة: هل الكهرباء مقطوعة عليكم؟

أجابني الموظف ضاحكًا: بل لا كهرباء لدينا البتة.

لماذا؟ سألت متعجبًا.

قال إن فندقهم مخصص لسياح أوروبيين يرغبون بتجربة العيش في ظروف صنعاء قديمًا قبل عصر الكهرباء والاتصالات والإعلام. لذلك لا كهرباء لدينا ولا تليفونات ولا تليفزيونات ولا صحف ولا حتى سرر، بل حشايا وفرش على الأرض ونوارات ومواقد جمر للدفء وتسخين الماء.

كدت أنفجر من الضحك والغيظ معًا، لكني كتمت فمي بكلتا يدي. واستدرت للخروج، فقال الموظف (بلهجته الصنعانية اللطيفة): ما رأيكم يا مدير تصعدوا للطابق الأول، وتبصروا بأعينكم.

وافقت بعد تردد، لأجد النزلاء الأوروبيين يفترشون أرضيات الغرف كالمساجين، لكنهم يتضاحكون، وتبدو عليهم السعادة في ما يجربون. نظروا نحوي باسمين، ربما حسبوني مفتش سياحة. ضحكت لهم ومنهم ومني أنا الهارب من الصقيع كالمستجير من الصقيع إلى حيث لا كهرباء*.

* الآن، وأنا متشوق لنسمات صنعاء في بردها وصيفها وصقيعها الذي تدفئني ذبذباته عن بعد، أتذكرهم، وأفكر لو أن سياحة عدن تفتح لتلك الفئة من السياح الأبواب، فينعموا بتجربة في الظلام الذي عفر به

التحالف حياة عدن، لكأنه يوفر سبل العيش لتجارب حيوات قديمة كانت بين القرنين العاشر والخامس عشر للميلاد، وها إن فندقي روك هوتيل وكريسنت البائسين مجهزان بأحلك مستويات الظلام الذي لم يتخيله حتى هيتشكوك مخرج أفلام الرعب الشهير!