الغرب وصهينة العلاقات الدولية

المحاولات الغربية المستميتة لربط السامية باليهود حصرًا، تعيدنا للبحث في هذا الموضوع في بطون كتب التاريخ والأنثروبولوجيا، لصد هذا التخيل المقصود. لا يمكن الركون على التوراة المحرفة والمليئة بالأساطير المأخوذة عن البابلية والأشورية والسومرية وغيرها، وهذا نجده مفندًا تمامًا في كتاب "جدل حول صهيون"، لمؤلفه دوجلاس ريد.

لقد بدأ تداول مفهوم السامية في عام 1781، عندما اقترح عالم اللغة الألماني شلوتزر، وكان الهدف كما أوضح استخدامه كعلامة على الشعوب التي أنشأت حضارات في جزء من جنوب غرب آسيا ترتبط لغويًا وتاريخيًا، كما ترتبط إلى حد ما من حيث الأنساب1. ولا ينبغي بالتالي أن نفهم من لفظ السامية "أي شيء أكثر من اصطلاح المقصود به تيسير الأمر على الباحثين، دون أن نعتقد أن له دلالة عنصرية"2، حسبما يقول العالم الفرنسي هنري فليش.

هناك آراء كثيرة مبنية على أبحاث تاريخية إثنية وأنثروبولوجية تجمع على أن شبه الجزيرة العربية هي الموطن الأول للساميين، وأن خروجهم ونزوحهم منها إلى مناطق مختلفة يعزى إلى الجفاف الذي ضرب هذه المنطقة في مرحلة تاريخية ما.

إذن، والحال كذلك، فإن الشعوب التي قطنت شبه الجزيرة العربية، لم يكونوا إلا العرب القدامى، وكان بينهم يهود، أي ليس كل الساميين يهودًا، وعندما حدثت الهجرات هاجر اليهود مع من هاجر للبحث عن أسباب الحياة.

برأي العالم الأنثروبولوجي السويسري يوغين بيتار، فإن اليهود جميعًا بعيدون كل البعد عن الانتماء لما يسمى جنسًا يهوديًا، بل ينحدرون من سلالات متنوعة. بينما يرى زيجموند فرويد أن من يسمون بني إسرائيل ممن خرج مع موسى من مصر، ليسوا إلا أخلاط من الأسرى والعبيد والأجراء الذين ينتمون إلى جميع الشعوب التي كان المصريون القدماء يتعاملون معها في الحرب والسلم3. وحدث لاحقًا أن كثيرًا من الجماعات الأوروبية ومن أصول تركية، اعتنقت الديانة اليهودية، وأصبحت تمثل هذا "«الشعب»، الذي لا يملك نقطة دم واحدة سامية، ولا يمكن حتى التلميح بنسب أسلافهم القدماء إلى أصول فلسطينية، فالحكومة التلمودية قادها تاريخيًا جيوش الغرباء ذوو الأصول الآسيوية الخزرية"4، ويطلق عليهم "الأشكناز"، وهم الذين يهيمنون على دولة إسرائيل سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا وحتى قضائيًا، بينما يطلق على اليهود الساميين "السفارديم"، وهم حاليًا يمثلون الأقلية المضطهدة في الدولة الصهيونية.

ما استدعى الخوض في هذا الموضوع، هو القرار الجديد للكونغرس الأمريكي الذي يساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وقد مرر هذا القرار المصاغ من قبل الجمهوريين، بأغلبية 311 صوتًا مقابل 14، مما استقطب دعم جميع الجمهوريين، بينما أيده 95 من الديمقراطيين. صحيح أن هذا القرار قد تم إصداره على عجالة تماشيًا مع الحرب الإسرائيلية -الأمريكية على غزة، لكن التمهيد له كان يجري على قدم وسائق من قبل زعماء الغرب.

وقال بعض الديمقراطيين الذين رفضوا القرار "إن المساواة بين انتقاد دولة إسرائيل وكراهية الشعب اليهودي، أمر مبالغ فيه". وفي السياق ذاته، قال النائب جيرولد نادلر، الديمقراطي عن نيويورك، والعضو اليهودي الأطول خدمة في مجلس النواب، في خطاب ألقاه أمام مجلس النواب: "بموجب هذا القرار، فإن أولئك الذين يحبون إسرائيل بشدة، ولكنهم ينتقدون بعض مناهجها السياسية، يمكن اعتبارهم مناهضين للصهيونية". مضيفًا أن "هذا يمكن أن يجعل كل عضو يهودي ديمقراطي في هذه الهيئة، لأنهم جميعًا انتقدوا حزمة الإصلاح القضائي الإسرائيلي الأخيرة، معادين للسامية بحكم الأمر الواقع. هل يمكن أن يكون هذا نية المؤلف؟" (من تقدم بالقرار).

وقال ديفيد كوستوف (صاحب القرار) مهاجمًا الممتنعين عن دعم القرار: "لقد رأينا أعضاء في هذه الهيئة ذاتها يكررون خطابًا معاديًا للسامية بشكل صارخ، وينشرون الأكاذيب حول إسرائيل وحقها في الوجود". "دعوني أكن واضحًا تمامًا، مثل هذه الكراهية ليس لها مكان في قاعات الكونغرس، ولا في خطابنا الوطني"5.

وكانت النائبة رشيدة طليب، فلسطينية الأصل، تعرضت لحملة شعواء تحت طائلة معاداة السامية، لأنها رفعت شعارًا مؤيدًا لقيام دولة فلسطينية، كما تعرضت لانتقادات شديدة من ممثلي اللوبي الصهيوني، لاتهامها الرئيس بايدن بدعم "إبادة جماعية" في قطاع غزة6. ويعرف القانون الدولي الإبادة الجماعية بأنها "جريمة تهدف إلى تدمير مجموعة قومية أو عنصرية أو وإثنية أو دينية"، وهو بالضبط ما تقوم به إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، في الوقت الذي تلقي اللوم على الضحايا.

التمهيد لقرار مساواة معاداة الصهيونية بمعاداة السامية، بدأ في عهد ترامب، فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في خطابه الذي ألقاه في 25 مارس 2019، أن معاداة الصهيونية هي شكل من أشكال معاداة السامية والعداء لليهود. وأن معاداة الصهيونية آخذة في الارتفاع في جميع أنحاء العالم، وتعتزم واشنطن "محاربتها بلا كلل".

وعلى المنوال نفسه، قال الممثل الخاص لوزارة الخارجية لمراقبة ومكافحة معاداة السامية إيلان كار، إن الموقف الأمريكي قد يعني مراجعة العلاقات مع الحكومات أو القادة الأجانب. مضيفًا عند زيارته لإسرائيل أن "الولايات المتحدة مستعدة لإعادة النظر في علاقاتها مع أية دولة، وبالطبع معاداة السامية من دولة تربطنا بها علاقات أمر يثير قلقًا عميقًا". وأكد أنه سيثير هذه القضية في الاجتماعات الثنائية التي سيعقدها حول العالم، وأن "هذا شيء سنتحدث عنه بصراحة وصراحة خلف الأبواب المغلقة". وقال كار إن سياسة الإدارة المتمثلة في المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية "تفتح بالتأكيد آفاقًا جديدة... مما يوضح ما يعرفه بالفعل الكثير منا، المنخرطون في العالم اليهودي والمؤيدون لعلاقة قوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل". وتعتقد الإدارة الأمريكية أن أحد أشكال معاداة السامية في العالم الحديث مخفي تحت مفهوم معاداة الصهيونية.

عندما صدرت تصريحات بومبيو وكار كان بعض المحللين السياسيين الأمريكيين مقتنعين أن الرئيس دونالد ترامب وغيره من الجمهوريين يأملون في أن تجتذب الإجراءات الداعمة لإسرائيل الناخبين اليهود.

وفي فرنسا كان إيمانويل ماكرون وعد عند لقائه مع ممثلي المجلس الوطني للمنظمات اليهودية، في فبراير 2019، بالاعتراف بمعاداة الصهيونية في فرنسا كشكل من أشكال معاداة السامية، قائلًا إن معاداة السامية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.

وأكد أنه في غضون مايو من نفس العام سيُقدم مشروع قانون ضد الترويج للكراهية على الإنترنت، إلى البرلمان، ومن أهدافه مكافحة العنصرية ومعاداة السامية. وقال: "تواجه فرنسا ودول أوروبية أخرى وكل دولة ديمقراطية تقريبًا في العالم الغربي، تفشيًا لمعاداة السامية. وقد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية. معاداة السامية تقتل. هذا ما نشهده مرة أخرى في فرنسا خلال السنوات الأخيرة"7.

وفي بريطانيا كان حزب العمال مسرحًا لسجال شديد حول الصهيونية والسامية. فقد وجهت الاتهامات للنائبة ناز شاه وعمدة لندن السابق كين ليفينغستون، بمعاداة السامية، وقد أثيرت التساؤلات عما إذا كانت إدانة الصهيونية التي يتبناه العديد من أعضاء حزب العمال تعتبر معاداة مقنعة للسامية. وقد نجم ذلك تعليق عضوية ليفينغستون في الحزب مؤقتًا بعد تصريحاته "أن هتلر دعم الصهيونية قبل المحرقة"، وحقيقة دعم هتلر للصهيونية تتحدث عنها بعض المصادر إلى حد الحديث عن اتفاق بين الوكالة اليهودية وهتلر على ضرورة "الحفاظ على نقاء الجنسين الآري واليهودي"، وأن ما جرى من ملاحقات إنما كان بغرض دفع اليهود للهجرة إلى فلسطين.

ويعتقد ليفينغستون أن "معاداة الصهيونية" و"معاداة السامية" مفهومان مختلفان، و"لا ينبغي الخلط بين معاداة السامية وانتقاد سياسات السلطات الإسرائيلية، بما في ذلك تجاه الفلسطينيين"، بينما قطاع آخر في الحزب يرى أن المفهومين يحملان نفس المعنى، يقول اللورد ليفي، عضو حزب العمال: إن استخدام كلمة "صهيوني" هو في الواقع شكل من أشكال معاداة السامية. وكما في فرنسا يسود في بريطانيا اعتقاد بتزايد العداء للسامية، لذلك تتزايد الحساسية تجاه أي نقد لإسرائيل، بخاصة هذه الأيام، في ظل المذابح التي تنفذها في الأراضي الفلسطينية.

وفي محاولة للتدليس على قناعات الناس، قالت البارونة جوليا نويبرغر، في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، إن معاداة الصهيونية تعني أنه "على عكس الشعوب الأخرى، ليس لليهود الحق في تقرير المصير"8، فالحديث عن حق تقرير المصير بصورة مقلوبة مجافية للحقيقة، فحق تقرير المصير يعتبر حقًا أصيلًا للشعوب الواقعة تحت طغيان الاحتلال والعنصرية، كما هو حال الشعب الفلسطيني. كانت الأمم المتحدة أصدرت قرارًا يعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، وقد تم إلغاؤه لاحقا.

لقد ذهبت صحيفة "جيروزاليم بوست" إلى القول: "إن "معاداة الصهيونية" لا تهدف إلى الخلافات في السياسة أو حتى العداء مع الشخصيات السياسية، بل إلى نزع الشرعية عن العنصر الرئيسي في النموذج اليهودي: ارتباط اليهود بأرضهم"، وإن هذه الصهيونية في "جوهرها، هي الاعتقاد بأن اليهودي لديه علاقة خاصة بأرض إسرائيل"9، هذا الزعم المكثف يريد أن يخلق علاقة متخيلة بين الذين لا يمتلكون قطرة دم سامية واحدة، وبين أرض الساميين الحقيقيين أحفاد كنعان.

إننا نقف إزاء حقيقتين هامتين من النزوع نحو الجمع بين معادة الصهيونية ومعاداة السامية، في بند واحد ينبغي أن نقف عليهما:

تكمن أولاهما في "إن الصهيونية ومعاداة السامية الأوروبية لهما نفس الهدف: طرد اليهود الأوروبيين من بلدانهم الأصلية، وإجبارهم على أن يصبحوا مستعمرين في فلسطين المحتلة. يجب أن نقاوم هذا الهدف الإجرامي"10.

وتكمن الحقيقة الثانية في أن الدول الغربية، بخاصة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، تسعى لصهينة العلاقات الدولية بغرض انتزاع مصالح جيوسياسية وجيواقتصادية على حساب مصالح أغلب شعوب العالم والشعوب العربية بدرجة رئيسية، رغمًا عنها، وهذا ما ينبغي على الدول وضعه في الاعتبار عند اتخاذا القرارات المصيرية ذات الارتباط الوثيق بالتنمية الاقتصادية والأمن القومي (الغذائي والسبراني والمائي والبيئي والجغرافي).

هوامش:

1. حسن ظاظا. الساميون ولغاتهم. الطبعة الثانية، دار القلم دمشق، الدار الشامية، بيروت، 1990، ص9.

2. المصدر السابق.

3. المصدر السابق، ص10.

4. دوجلاس ريد. جدل حول صهيون. ترجمة غياث كنعو. ص84.

5- House Declares Anti-Zionism Is Antisemitism, Dividing Democrats - The New York Times (nytimes.com)

6- США могут пересмотреть отношения со странами, стоящими на антиизраильских позициях (golosameriki.com)

7- Макрон: "Антисионизм - это антисемитизм" | Euronews

8- Антисионизм или антисемитизм: дилемма британских лейбористов - BBC News Русская служба

9- Антисионизм=антисемитизм - STMEGI

10- Новая резолюция Конгресса США приравнивает антисионизм к антисемитизму | Америка (yenisafak.com)