التحيُّزات الثقافية للمركزية

رغمًا عن موروثها العظيم الذي لايزال يرفد الحضارة البشرية، إلا أن الحضارة الإغريقية كانت موغلة في الطبقية، ومشبعة بروح التفاوت والتراتبية، حتى إنها قسمت المجتمع إلى "هيلينيين" أسبغت عليهم سمات التفوق والتميز، و"برابرة" يقبعون في أدنى درجات السلم الاجتماعي، مُحمَّلين بكافة أوصاف التحقير والدونية.

على الجانب الآخر من الأرض، كانت الحضارة الصينية، المتماثلة زمنيًا في نشأتها مع حضارة الإغريق، وفي ثقافتها التحَيُّزية وموروثها الطبقي، إذ ظلت الصين لآلاف السنين تسمي نفسها "المملكة المتوسطة"، فهي مركز الكون، وما يقع خارج سور الصين العظيم ليسوا سوى برابرة يعيشون في الظلام الخارجي.

ولآماد طويلة ساد الاعتقاد بأن الأرض التي يسكنها الإنسان لا بد أن تكون مركز الكون، فيما الشمس وبقية الكواكب تدور حولها.. ورغم تقادم الزمن على دحض هذه الخرافة، بإثباتات علمية، جعلت الأرض ليست فقط كوكبًا يدور كما سواه حول الشمس، بل أثبتت أنها والمجموعة الشمسية برمتها، يقبعون في ركن بعيد منزوٍ من إحدى المجرات في كون يمتلئ بمليارات المجرات الأخرى.. إلا أن هنالك من لايزال يرى في قريته الصغيرة سقف العالم ومركز الكون.

المركزية عميقة الجذور في ثقافتنا كبشر، وإن كانت أكثر حضورًا في المجتمعات القبلية الريفية، منها في تلك الأكثر تحضرًا، وهي نتاج لجغرافيا تخيُّلية، تجعل من الأنا والرقعة الجغرافية التي تعيش عليها، في مركز الكون، مع ما يستبطنه الأمر من مواقف سلبية ضد الآخر الذي لا يشاركها هذا الانتماء الجغرافي.

التطورات العلمية والتقنية للبشر خلال آلاف السنوات، كان لها الفضل في إعادة موضعة العقل البشري، لتتغير نظرته لذاته وللكون من حوله، بعدما اكتشف أن تصنيف البشر على أسس عرقية وجغرافية ولونية، ومحاولات إثبات التفوق العرقي لشعب ما على سواه، لا يعدو أن يكون خرافة، لا تستند على أي دلائل علمية وعقلية وحتى دينية.. وهو ما استدعى إحلال مفهوم "اللامركزية" بوصفه ثقافة لا مجرد نمط إداري لإدارة شؤون المجتمع، الأمر الذي أثمر إعادة النظر إلى الإنسان والمجتمع، لتتموضع مفاهيم "الأنا والآخر" ضمن السياق الطبيعي لها، ولتتبدل النظرة إلى الآخر، لا باعتباره آخر مغايرًا، إنما مكملًا للأنا وشريكًا لها في السلطة والثروة، بخاصة عندما يجمعهما رقعة جغرافية مشتركة ونظام سياسي موحد، ونظام اجتماعي ينبغي قيامه على التعايش والشراكة بين أبنائه، وبينهم وبين محيطهم الحيوي والبيئي.. عوضًا عن النظرة الخرقاء للآخر بوصفه نقيضًا أو عدوًا.

اللامركزية أضحت النظام الإداري السائد في العالم أجمع، باستثناء دولتين صغيرتين: "الفاتيكان" في قلب العاصمة الإيطالية "روما"، ودولة صغيرة أخرى هي "سانت مارينو".. أما في بلد كاليمن، على اتساع رقعته الجغرافية وموروثه التاريخي من ثقافة اللامركزية، إلا أنها كنظام إداري لم يُكتب له التطور، بل شهد تراجعًا مريعًا في السنوات الأخيرة.

لا مغالاة في الأمر عندما نرجع ذلك، إلى طبيعة نظام الحكم الفردي في اليمن، الذي كان ولايزال متشبعًا بثقافة المركزية، ما يفسر استمراءه في إدارة الدولة وفق تقاليد وأعراف القبيلة، مع ما تحمله من تَحيُّزات ثقافية، وطبقية، تستهدف مركزة ثقافة القبيلة وموروثها الإداري والاجتماعي، وجعلها السائدة، وتحقير وازدراء غيرها من مكونات اجتماعية أخرى.

وهو ما يفسر السعي الحثيث، للأنظمة الفردية المتعاقبة، لتركيز السلطة والثروة في النخبة القبلية العسكرية لنظام الحكم المركزي... فيما يزداد الأمر سوءًا عندما يتم تغليف تلك المساعي بالدين، وبتفسيرات دينية تتعارض كلية مع مبادئه القائمة على المساواة بين الناس، وأن أساس التفاضل بينهم، التقوى والعمل الصالح، لا العرق أو الجنس واللون.