اقتلوهم... فاوضوهم... ثم اقتلوهم!

بعد تواطؤ طال وزعم بائس لم ولن يتوقف بأن السبب الرئيس لدعم إسرائيل هو ديمقراطيتها الفريدة في المنطقة ومشاركتها الغرب في قيمه وثقافته، وطبعًا في لونه، والأخير يُتعمد تجاهله لإخفاء البعد العنصري في دعم الاحتلال وسياساته.

هذا الغرب الاستعماري لم يطلب من إسرائيل مرة واحدة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية المحتلة، ولم يقل يومًا ما بأنه مع سلام عادل للفلسطينيين وفق الشرعية الدولية، ومع تطبيق أحد بنود القرار رقم 242 (1967) الذي وافق عليه هو وإسرائيل ولا يجيز نصه اكتساب أراضي الغير بالقوة، وبالنتيجة ينطبق القرار على الاستيطان المدعوم بقوة وجند دولة الاحتلال وبالمستعمِرين الغربيين، وهم 100% من القوة البشرية الاستعمارية في الضفة والقدس المحتلة. في الحرب على غزة لم تطلب هذه الدول وقف الحرب، وتركز فقط على إطلاق سراح أسرى حرب المحتل، ولا تنطق بكلمة واحدة عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، وبينهم نساء وأطفال، لأن آدميتهم وحقهم في الحرية غير ذي قيمة. حلفاء إسرائيل لا تهمهم عدالة قضية فلسطين، ولكنهم يجمعون على أن حركة حماس تنظيم إرهابي لتسويغ إنكارهم حقها المقدس في مقاومة محتل عنصري يحاصر ويقتل ويجوع ويغِير جوًا وبحرًا، ويغزو برًا، ويمنع الغزاوي في معظم الأحيان حتى من الصيد في بحره للضغط عليه اقتصاديًا، وحرمانه من أحد مصادر العيش، وهو في مأمن لوقوف الغرب معه. تصف منظمة هيومان رايتس ووتش سياسة التجويع الإسرائيلية بـ"جريمة حرب"، ولكن واشنطن لا تصغي ولا ترى.

إن هدف المقاومة الأول هو التحرر من الاحتلال بالمقاومة بعد رفضه الانسحاب، وليس الإضرار بأمن ومصالح حلفائه الغربيين، رغم مشروعية استهداف مصالحهم حتى يتوقفوا عن مساندة إسرائيل. وفي الواقع لم يسجل على المقاومة منذ الستينيات، وعلى حماس منذ تأسيسها عام 1987، أنها استهدفت مصالح هذه الدول لتبرير تصنيفها الجائر بأنها إرهابية، برغم أن هذه الدول تدعم علنًا سياسات إسرائيل الإرهابية والتوسعية في الضفة، مما يجعل استهدافها مشروعًا. ومؤخرًا استيقظت على حقيقة إرهاب المستعمِرين، الذي تلطفه وتسميه "عنفًا"، وليس إرهابًا، لأنها تفضله استيطانًا "ناعمًا" لا يحرجها ويلجؤها إلى فرض عقوبات ناعمة أيضًا، وغير ذات معنى على المستعمِرين، وليس على دولتهم أس الشرور جميعها. هذه العقوبات مثيرة للسخرية، لأنها تقتصر، لو طبقت، على منع المستعمِرين من زيارات بعض هذه البلدان، لكن عمليًا يحمل الكثير من هؤلاء الإرهابيين جنسيات مزدوجة أمريكية وألمانية وبريطانية وكندية الخ.. وكصهيوني مزدوج الجنسية، فإن منعه من زيارة "وطنه" يرقى إلى إسقاط جنسيته، مما يعني أن الإجراء كأن لم يكن. يعيش في دولة الاحتلال ستمائة ألف أمريكي، يقاتل بعضهم مع جيش الاحتلال، كما يقاتل أكثر من أربعة آلاف فرنسي، إضافة إلى جنسيات أخرى، منها البولندية، وهؤلاء خارج هذه العقوبات المفرطة في سذاجتها.

تبعية لا خجل منها:
بعد تصريح مبكر لوزير خارجية امريكا - إسرائيل أنتوني بلنكن، بأن "القتلى كثيرون جدًا" Too many، منّ الله على بعض، وليس على كل أقرانه الغربيين، بالفصاحة، وكرروا كالببغاوات ما قاله سيدهم. هؤلاء لا تتمتع دولهم بالسيادة، ويفتقدون حتى الكرامة الشخصية، وسياساتهم الخارجية غير مستقلة، لأنها لا تراعي مصالح دولهم أولًا التي هي في منطقتنا، وليست في إسرائيل، ولكننا توقفنا عن توظيفها سياسيًا واقتصاديًا لصالح قضية فلسطين ولصالحنا أيضًا، لأن الخطر الصهيوني يستهدفنا كلنا.
في السياق نفسه، تمعن واشنطن وتوابعها في استمرار إنكار حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والدولة، ولا تعترض على فيتو نتنياهو العلني عليهما، واعتباره اتفاقية أوسلو بكل نواقصها خطأً لن يكرره.
إن مما يضاعف من الهوان الغربي، كتابة وزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون، وألمانيا أنالينا بينبوك، مقالًا مشتركًا في صحيفتين ألمانية وبريطانية، لم يطلبا فيه من إسرائيل وقف العدوان، وإنما استجدياها أن "تميز أكثر" بين الإرهابيين وبين المدنيين، في الوقت الذي تسفك فيه الدماء وتدمر وتجبر مليونًا وتسعمائة ألف فلسطيني على النزوح والعيش في العراء وتحت قسوة شتاء قارس وممطر، وكأن هؤلاء لايزالون في بيوتهم ويحرثون مزارعهم ويقومون بأعمالهم اليومية العادية. أما عن التدمير الوحشي في غزة، الذي فعلت أقل منه بكثير إمبراطورية الوزير كاميرون السابقة في الحرب العالمية الثانية، بوطن الوزيرة بينبوك، وبخاصة في مدينة دوسلدروف، فلا حديث عنه.
الوزيران منحا في مقالهما الاحتلال الإشارة الغربية الخضراء الكبيرة للاستمرار في الحرب، ولم يتجرأ بتشغيل إشارة حمراء صغيرة قد تعني فرض عقوبات على إسرائيل إن هي انتهكتها.
الغرب كإسرائيل يجمع على التفاوض مع حماس، وعلى قتل قادة حماس في الوقت ذاته، ولا ينطق بكلمة واحدة عن إطلاق سراح آلاف السجناء الفلسطينيين، ولا يطلب وقف القتال الذي نتج عنه حتى 19 ديسمبر، استشهاد قرابة عشرين ألف فلسطيني، أكثر من ثلثيهم نساء وأطفال، وتسعة آلاف مفقود لايزالون تحت الأنقاض، وقرابة ثلاثة وخمسين ألف مصاب، دمر الاحتلال مستشفياتهم التي تداويهم.
إننا في عصر العبث بالإنسان، وانفلات المعايير الأخلاقية، وقلب الحقائق رأسًا على عقب. وحتى اليوم تدفن أمريكا وعبيدها رؤوسهم كالنعام في الرمال، ولا تعترف بأن زوال الاحتلال هو مفتاح السلام والاستقرار للجميع، ولكن لأن الاحتلال مصلحة أمريكية وغربية بالتبعية، فسيستمر الحال كما هو، ولا يهم كم يقتل من الفلسطينيين يوميًا في غزة المحاصرة والضفة المحتلة من أي فصيل فلسطيني، لأن الكل سواسية في العين الاستعمارية الغربية والكيان الغاصب.