في أسباب فشل الدولة.. اليمن في مربع الحل الأمني

في أسباب فشل الدولة.. اليمن في مربع الحل الأمني - ماجد المذحجي

يُحال تقدير مسار الأمور في اليمن من سيء إلى أسوأ باستمرار، ويتصدر البلد واجهة المتابعات الإخبارية في كل مكان، باعتباره محل أزمة مستمرة على أكثر من صعيد. ويبدو اختناق اليمن بمشاكل حقيقية منذراً بتحولها لدولة فاشلة بامتياز، إن لم يكن قد أصبح كذلك فعلياً، ولم يعد التعويل المعتاد على قدرات استثنائية لرئيس الجمهورية بالتدخل في اللحظة الاخيرة لإنقاذ الأوضاع محل رهان أي طرف على الإطلاق!
تتدهور الأوضاع بشكل مخيف. فالتحرك السلمي بالجنوب تم ضربه بقسوة شديدة، وهو يعيش حالة هدوء (مؤقتة) تنذر بالأسوأ. وحرب صعدة تفجرت للمرة الخامسة، لتنتقل هذه المرة إلى عمران وريف صنعاء. كما عاشت العاصمة لأول مرة على وقع المعارك مع "الحوثيين"، مما جعل الحرب أقرب للكل ومعلومة للجميع بشكل أوضح مما سبق. علاوة على ذلك، تقطعت أوصال العاصمة بنقاط أمنية في كل مكان، ما جعل الناس يتعايشون بشكل يومي ومباشر مع إحساس "النظام" بالذعر. يسبق ذلك إعلان "القاعدة" عن جيل جديد أكثر عنفاً وعدوانية، استطاع بشكل متلاحق أن يضرب الكثير من المصالح الغربية في اليمن بشكل مؤذٍ، مما أدى إلى انعدام ثقة دولي حقيقي بالدولة وبإمكانية استقرار الوضع الأمني. وما عقد الأمر أكثر أنه جيل لم يستجب للمساومات الأمنية (المعتادة) التي تتم بها إدارة العلاقة مع "القاعدة". العلاقة مع أمريكا أيضاً سيئة بسبب الأخطاء الكثيرة في إدارة ملف الإرهاب بشكل أساسي، ولإحساس أمريكا بتعمد اليمن ابتزازها في قضايا مطلوبيين إرهابيين كـ"البدوي" و"البنا"، مما جعل العلاقة بين الطرفين تصل إلى أسوأ أحوالها منذ فترة طويلة. انعدم الديزل الحيوي بالنسبة للمزارعين والكثير من السكان بسبب التهريب، وأسعار المواد الأساسية ارتفعت للكثير من الأسباب، والنقمة الشعبية عالية بسبب كل ذلك، رغم عدم انفجارها حتى الآن والصمت الذي تبدو عليه، وهو ما يرتب قلقاً إضافياً. كما أن المتبقي من الموعد الزمني للانتخابات البرلمانية القادمة أصبح أقل من عام، بينما كل شيء غير مُستقر، ومناهض للدولة، وعدائي تجاه الحزب الحاكم، ويعاكس إمكانية تنفيذ فعلية للوعود مرتفعة السقف التي أعلنها الرئيس في إطار تنافسه مع مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، علاوة على أن عدم الاتفاق السياسي مع المعارضة حتى الآن حول تشكيل لجنة الانتخابات التي انتهت فترتها، يجعل شرعية أي نتائج قادمة محل طعن واضح من قبل الجهات الدولية على الأقل.
تهمل "الدولة" واجباتها بشكل واسع، وتبدو مربكة ولا مبالية أيضاً. وفي قضية رأي عام أخيرة، حصدت اهتماماً وتعاطفاً واسعاً، كواقعة إحراق متسللين يمنيين فقراء على يد أفراد أمن سعوديين، تبدو "الدولة" طرفاً محايداً بشكل غريب ومستفز للجميع، بينما تلجأ في مستوى آخر، وبشكل تصعيدي، إلى إيقاظ تحالفها النائم والخطر مع علماء دين أصوليين، مثل الزنداني والذارحي، لسحب المجتمع إلى مواجهة جديدة تتعلق بالحريات العامة والشخصية، دون تفكير بالتوترات العميقة التي سيثيرها تنفيذ اقتراح أهوج مثل هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علاوة على أن تعزيز النفوذ العام لهؤلاء "الأصوليين" سيعقد صلة الناس بالدولة التي أصبحت في مواجهتهم مولداً لأدوات القمع والتسلط الأمني والديني فقط، كما سيذكرهم ذلك تماماً بمناخ حرب 94 وما بعدها حين أغلقت الأماكن العامة أمام الناس بسبب تسلط "المطاوعة" عليهم، وسيطرتهم الضمنية على الفضاء العام للمدن في ذروة تحالف الدولة مع "الأصوليين" حينها. كما أنه أمر إذا تم سيكون سبباً إضافياً لتكريس مناخ طارد للاستثمارات والسياحة، ويحول البيئة اليمنية إلى محل تخصيب مغلق للتطرف الديني وإنتاج الإرهابيين، وهو ما لا تحتمله سمعة اليمن السيئة بالأساس.
 في كل ذلك تتراجع خيارات "الدولة" في تعاطيها مع هذه المشاكل و"التفجرات" نحو المربع الأمني الضيق. وبشكل لافت تتصدى الأجهزة الأمنية ومؤسسة الجيش لإدارة المشاكل والحياة اليومية، ويتمدد الحل الأمني في الفضاء العام بشكل سريع، علاوة على اتساق كل ذلك مع الغياب التام لأي رؤية سياسية منفتحة، تسندها قاعدة التشاور الوطني الواسع، للتعاطي مع الأزمة الوطنية الشاملة التي تعصف بالبلد.
 تختفي بشكل متسارع الملامح المدنية المنفتحة للدولة، لتحل محلها صبغة بوليسية قاتمة تفصح عن إعادة بناء هوية شمولية عدوانية تريد قسر المجتمع والسياسة في موقع الإذعان فقط. وبشكل متسارع يتم إلغاء مسار ضعيف، بالأساس، من التحول السياسي نحو الديمقراطية في اليمن. وضمن أي قراءة سريعة للمشهد الحالي، تبدو الحريات والحقوق السياسية والمدنية هي الضحية الأولى لأولوية الحل الأمني الذي يتم اعتماده بكثافة في الاستجابة لأي احتقانات سياسية ومعيشية تتكاثر بسبب فشل السياسة والتنمية في البلد.
اليمن واقعة في مصيدة أمنية حقيقية. ودون هذا الخيار، العنيف والعدواني، الذي تعتمده "الدولة"، لا توجد معالجات أخرى. الأولوية الأخرى القائمة تُمنح لإعادة بناء تحالفات سياسية قديمة مع "الأصوليين"، لإضعاف الممانعات المدنية "القليلة" القائمة ضد عودة الصيغة الشمولية لدولة ما قبل الوحدة، فقد وفر المسار الضعيف من التحول الديمقراطي حسنات قليلة، منها بناء مصالح للكثير من الأطراف في وجود دولة مدنية وتعزيز الديمقراطية وحماية الحريات. ويتصدر الصحفيون، والنشطاء السياسيون، ومنظمات المجتمع المدني، حماية هذه المصالح الجديدة في اليمن، وهم -على قلّتهم- يشكلون أداة ضغط حقيقية وغير مألوفة على "دولة" اعتادت التعاطي مع أصحاب مصالح قديمة في البلد، مثل القبائل ومراكز النفوذ التقليدية الأخرى. وحتى الآن تبدو أولوية الحل الأمني هي تفتيت المصالح الجديدة والاصطفاف التي حولها، بما ييسر لأصحاب الشأن إدارة الأمور كما اعتادوا عليه. لذلك يمكن تفهم "الشراسة" ضد "المدنيين" الجدد، وكل ما أتى في هذا السياق، مثل "التنكيلـ" المستمر بالخيواني، واعتقال ومحاكمة باعوم والمقالح والغريب وغالب ومنصر وآخريين. علاوة على سحب التراخيص من الصحف، والتضييق عليها، وإغلاق المواقع الالكترونية، واعتقال الناشطين المدنيين والسياسيين، ومضايقة منظمات حقوق الانسان، ومنع وتفريق الاعتصامات والتظاهرات بالقوة، وإشاعة أجواء امني مستنفرة في البلد لتعزيز "الذعر" العام، بما يخلفه ذلك من ميل واسع للصمت، وهو ما يبدو مطلباً عزيزاً عليها حتى الآن.
maged