1 - صحافة الجنازة

1 - صحافة الجنازة - منصور هائل

تكبر مساحات النعي والعزاء والرثاء في صحافتنا أكبر من أي شيء آخر، وتترامي مساحة الخلاء الموحش، وينهمر مطر الموت من كل الجهات ويغمر الأرجاء وتنسد ممرات الحياة ويتعاظم حجم الفراغ والجحيم والكلمات الصامتة الصماء.
وتهرب المدينة من المدينة، وتنعدم الأرصفة، وتغيب الشوارع وتقفر إلا من النعوش والمواكب الجنائزية ومن منتج وحيد وسيد هو منتج الحكايا والخرافات وأخبار الحرائق والحروب والدماء والاغتيالات، وتهليلات المأتم.
وهنا بدت الصحافة ممهورة بتوقيع كابوس ومضبوطة على ذبذباته وصارت شبحية، مخيفة بفعل اختطافها لمهنة الندابات واكتسابها لشهية النسور الجائعة.
وانسحب الحال على مدننا المزعومة المتوارية خلف أردية الغفلة والنسيان والغبار والرماد، والسادرة في الانطفاء والعواء وتبادل إطلاق النيران والطعنات والتفجيرات والحموضة والرطوبة والعفن.
وكمن ارتبط بعقد دائم مع ثقافة الانتحار والاحتضار، صارت الصحافة عاجزة عن إدراك حجم الفزع الذي تثيره والجحيم الذي تديره ويلتحفها، وضربتها حمى السباق المجنون على تسقط أخبار الحفرة، والتنويع على إيقاع المقبرة، وعلى خطى المسيرة الجنائزية والتسابق على إحصاء القتلى، والاستغراق في المتاهة السديمية، ومداهنة صمت الجريمة الصارخ، وظلمة المسالك المتوحشة.
واللافت انها عندما لا تتوافر على جثة ومادة للرثاء، فإنها تقوم بوظيفة حفاري القبور وتنضغط تحت سقف سلطة ذاكرة القتلى في الحروب والحصارات السابقة واللاحقة وحتى آخر رمق.
وتستعر الحروب وتتهيج البذاءات والخيانات وتتهشم المرايا، كما تستخدم للمغالطة والتزويق، ويهرب المرء من مطالعة صورته في المرآه كي لا يرى علامات هيكل انهياره المنتظر: المستقبل الوشيك والقادم من نفق المجهول المغلف بجلد الخديعة.
mansoorhaelMail