تحويل جامعات الدولة إلى مكاتب علاقات عامة

تحويل جامعات الدولة إلى مكاتب علاقات عامة - أبوبكر السقاف

الجامعات العربية التي نشأت بجهود مدنية بادر بها المثقفون والمفكرون في مصر وسورية، وغيرهما من البلدان العربية، كان قيامها جزءاً من مشروع نهضة متكاملة الأركان، فكر فيه قادة الفكر السياسي والاصلاح الديني، يكفي ذكر أسماء الشيخ الامام محمد عبده ولطفي السيد وسعد زغلول لتتضح الملامح التي أرادها هؤلاء لقيام الجامعة. وحتى إلحاقها بالدولة المملوكية الجديدة لم تستطع أن تلغي دورها الريادي والتنويري وانتاج العلم والرقي الخلقي. وما إن حكم البلاد السيد الانقلاب وجاءت سلطة العساكر، حتى هبت على جذوة الفكر ريح صرصر عاتية، واحتكر الحاكم/ الحكام مهمة التفكير في الشأن العام، ألحقت الجامعة بالأمن وأمن السلطان الجديد.
أما الخطوة الاشد فتكاً بالعلم والفكر والأخلاق فقد تلت هذه السيطرة وذلك عندما أصبحت الجامعة مكتب علاقات عامة. ثم سُلق البحث العلمي في كل حقول الدراسات الانسانية، من الموسيقا حتى الاقتصاد والأدب، ليكون خادماً لسياسات السلطة تماماً كما كانت الفلسفة والفكر يخدمان اللاهوت الكنسي وقراراته. ومع طغيان الإعلام المتزايد على الفكر، أصبحت الجامعة مكتب علاقات عامة، ففي هذا الاطار تتم مناقشة رسائل ماجستير ودكتوراه في الخرطوم وصنعاء، وهما يمثلان الصورة الدنيا في دنيا سلق العلم والدكاترة. ويصبح الدفاع الذرائعي السطحي عن شعارات السلطة باسم الاسلام أو الوطنية أو الوحدة بتدبيج هذه الرسائل عملاً روتينياً للجامعات. فيغرق سوق تجارة الكتب برسائل تخجل منها مراكز البحث والجامعات الراقية، حيث الحرية أساس دورها.
كانت الكتب والمقالات التي نشرت في مصر لشرح بيان مارس 1968 أكثر من مجموع الكتب التي حاولت تفسير القرآن منذ القرن الثاني الهجري. ونشهد هنا في اليمن السعيد بحكامه منذ سنوات ندوات ومؤتمرات تعد على عجل للحاق بآخر قرارات الرئيس، كما يجري الآن في الندوات التي ترهق نفسها لفك طلاسم الحكمة في التعديلات الدستورية التي يراد لها إعادة انتخاب الجديد من نقطة التصفير، كما يقول بعضنا ساخراً. ومع ازدياد وتيرة القمع في الجنوب وسقوط الشهداء في المكلا وعدن والحبيلين يعلو الحديث الصاخب عن الوحدة، وكان الاستهلال في صباح يوم 1/9/2007، عندما تزامن احتلال السيارات المدرعة ساحة الحرية في خور مكسر وافتتاح ندوة تبحث عن الوحدة اليمنية في قاعة محمد علي لقمان، وسقوط الشهيد الشاب صلاح القحوم في أحد أزقة المكلا. تكامل مدهش بين وسائل التسلط والقتل بالممارسة الفكرية والممارسة العملية.
المؤيد والمحاكمة العادلة
الدول الاستعمارية تضع نفسها دائماً فوق القانون الدولي، وكان ظهورها على المسرح الدولي إيذاناً باستمرار مبدأ القوة، ومع الارتقاء الذي أنجزته الانسانية وبعد تراكم هذه الانجازات، ازداد تنظيم هذا المبدأ متانة وحضوراً في العلاقات الدولية، ولعل 11/9/2001 كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ هذه العلاقات، لاسيما وأنها جاءت بعد انهيار أحد المعسكرين الدوليين، فأصبح الحدث الإجرامي ذريعة وظفته الدولتان الامبرياليتان على أكمل (وجه)، بل وغدا سلوكاً انتهازياً تستخدمه الانظمة الاستبدادية في كل مكان لحماية نفسها بقمع دموي ومباركة متحمسة من قبل الدولتين اللتين أضفنا بذلك طابعاً عالمياً. فكرة محاربة الارهاب أصبح يهدد فيما يهدد استقلال الدول وحق الشعوب في الدفاع عن الحرية وحق تقرير المصير. أصبح ذريعة سهلة في يد الصين لمحاربة حركة التحرر والحقوق الاسلامية، واستخدمه شارون ومن جاء بعده لإغراق حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، في سفسطة تلغي الفرق بين الارهاب وحق مقاومة الظلم الذي كان من الحقوق الاولى التي وردت في الاعلان المعروف لحقوق الانسان والمواطن بداية الثورة الفرنسية العظمى، وجعل بوتن من الذريعة نفسها وسيلة لاستمرار حربه ضداً على الشيشان*.
لكن أخطر ما حدث هو أن هذه الذريعة تحولت من قضية أمنية بوليسية إلى وسيلة لعولمة مسيرة الاستعمار ليكون الغزو العسكري مكملاً ومتضافراً للعنف الاقتصادي الدولي. ونتج عن ذلك التنكر لمبادئ الحرية الشخصية، وسيادة القانون حتى في الدولتين الامبرياليتين، أمريكا وبريطانيا، ورفضت الهيئات الحقوقية فيهما القوانين التي تهدد حرية المواطن حتى أن ثلاث عشرة هيئة حقوقية أميركية أجمعت على رفض قانون التنصت وغيره من القوانين التي تناقص الدستور والقوانين السائدة.
أحدثت أمريكا ومعها خادمها ماتي** خلاءً قانونياً في غير بلد حيث السجون السرية في أوروبا والبلدان العربية دهاليز تعذيب بالإنابة، ولكن ذروة هذا الخلاء: غوانتانامو، والسجون الامريكية المعروفة ببشاعتها تأتي بعده.
إن المحاكمة العادلة تعني فيما تعني أن تكون السجون أثناء المحاكمة مكاناً لحجز المتهم، لا زنزانة تعذيب يومي، كما هي الحال مع المؤيد وزايد، وقد نشرت الصحف في غير بلد معلومات عن سلوك يحط من كرامة الانسان السجين، بما يعرف باختصار لظلم سام، الذي من إحدى بركاته تقييد السجين طوال مدة بقائه في السجن وحرمانه من حقوق كثيرة يتمتع بها المجرمون، وهذا أدى إلى وقوع زايد في حال إكتئاب، وإلى وهن شديد أصحاب المؤيد أوجزه الطبيب بأن استمراره يمكن أن يودي بحياته.
الحرية هي حرية الآخر، ولا علاقة لها بآرائه السياسية أو الدينية، وكذلك حق المحاكمة العادلة، لأن هذا اللون من الاحتجاز تعادل تجريماً يسبق نتائج المحاكمة، التي استؤنفت غير مرة.
بعض كتاب صحف المهجر العربية، من ما يعرف بالواقعيين كانوا يبشرون بأن التطبيع مع العدو الصهيوني هو ضرورة لتحقيق السلام، وهو موقف إسرائيلي بامتياز، ورغبة غير معلنة لعدد كبير من الانظمة الرجعية الاستبدادية، وهم اليوم يحذرون الوطنيين والقوميين واليساريين في البلدان العربية من مغبة الاستمرار في معاداة الامبريالية، لأن ذلك يصب الماء في طاحونة المتطرفين المسلمين في القاعدة وغيرها. فشرط التقدم في نظرهم هو أنه يمكن الاختلاف مع أمريكا ونقدها أحياناً ولكن لا يمكن البتة معاداتها، ولذا يجب السكوت عن جرائمها في كل مكان وفي المقدمة ما تصنعه في البلدان العربية. واتساقاً مع هذه الحكمة يجب أن يسكت اليمنيون عن المعاملة غير الانسانية التي يلقاها المؤيد وزايد. إن تأييد حقوق الانسان يرتفع فوق محاكمة آراء الناس السياسية وعقائدهم الدينية والدفاع عن حقوق الانسان بما هو إنسان، هو ما تشير إليه كلمتا «الحق الطبيعي» الذي لا يقبل التفويت، ورغم استقلال هذا الحق بأسسه الفلسفية عن الفكر الديني والأديان، إلا أنه يراها جزءاً من مسار تكوينه. كانت ذروة دعوة السادة الواقعيين في طرح الخيار القاتل بين الامبريالية والفاشية هي السنوات التي سبقت إعادة استعمار العراق، وكأن علينا فعلاً باسم حكمة موهومة أن نختار بين امبريالية الغرب وفاشية صدام حسين وحزبه الأوحد. ودعموا دعواهم بأن إطاحة الفاشية في العراق مدخل ليابان عربية تجدد مجد العروبة والاسلام.
أصبح العراق خلاءً قانونياً بامتياز، مدمراً تدميراً شاملاً، موهناً حتى الإعياء والموت، متناحراً حتى الجنون، وازدهرت فيه الفاشية تحت قناع الاسلام السياسي الجهادي الذي يقتل الأهل قبل الخصم، وينظم قائد الاوركسترا الامريكي شعار الاسلام السياسي السني والشيعي، أصبح حكماً وشاهداً على مأساة صنعها ليسيطر على نفط المنطقة العربية والآسيوية.
إن المشكلة ليست في تجدد ارتفاع هذه الأصوات المفرطة في الواقعية السياسية والأخلاقية، بل فيما أسماه الزميل محمد السيد سعيد (رئيس تحرير صحيفة البديل القاهرية) «موت الرأي العام العربي»، وأرى أن شيخوخة الأحزاب السياسية وهزال برامجها رافق هذا الموت منذ بداية تكونه، ولكن الصحوة الحقيقة لابد أن تبدأ من الرأي العام، صانع المجتمعين: المدني والسياسي، فهما لا يكونان إلا معاً. أصبحت الأحزاب،لا في لبنان وحده، إقطاعاً سياسياً، واذا كانت الحجة في لبنان هي ضرورة الديمقراطية التوافقية، فما حجة البلدان الأخرى. والديمقراطية مثل حقوق الانسان والحق الطبيعي لا تقبل عند تعريفها إضافة غريبة عنها مثل التوافقية أو المواجهة.
عندما لا تكون قضية مواطن/ مواطنة قضية رأي عام، فإن ذلك يعني أن المجتمع لا يزال راسخاً في الوشائج الأولوية التي سبقت المجتمع الحديث. والبدء بالدفاع عن الانسان المواطن دليل نضج ديني وسياسي، يجعل الاخلاقية السياسية أساسه السياسي.
لعل العزاء الوحيد حتى الآن هو ما يجري منذ نحو سبعة أشهر في الجنوب الحبيب، هذا الغضب الجميل، والجموح النبيل للانسان مواطناً وللوطن، دون فصل خبيث بين الاثنين، هو يدين كل أنظمة التسلط.
علينا أن نضع كلمة الانسان الفرد في عبارة فيلسوف الطاوية لاوتسو المشهورة محل كلمة الرحلة. رحلة الأميال الألف تبدأ بخطوة واحدة.
20/12/2007
 
* أصبحت أمريكا ومعها بريطانيا فوق القانون الدولي وفتحت بذلك الباب أمام كل ألوان الاستبداد. بدأت غزوات الاستعمار منذ القرن السادس تحت ذرائع عدة: محاربة القرصنة التي بدأت على يدهم لاحتلال أوطان مستقلة، على محاربة تجارة الرقيق بعد أن رحل الغرب نحو ثمانية ملايين انسان من أفريقيا، وتقوم محاربة الارهاب بالدور نفسه وعلى نطاق أوسع معولم، ليعود العالم إلى المرحلة الكونيالية التي سبقت النظام الامبريالي.
** إشارة إلى مسرحية برشت «بونتيلا وتابعه ماتي».