ما قبل الكارثة

ما قبل الكارثة - عبدالباري طاهر

ما أطلقه المستشرق البريطاني الاصل برناردلويس لم تكن نبؤة بأي معنى. فالباحث المهم والصهيوني المتعصب كان يقرأ الواقع العربي المتعفن والآيل للخراب. فتوقعاته عن تفكك المنطقة العربية وعودتها إلى وحداتها الاولى: قبلية، عشائرية، طائفية، وأعراق وانتماءات ما قبل وطنية، أو «هويات قاتلة» كتسمية الروائي النابه أمين معلوف كانت تتحلل من داخلها وتحت تأثير عوامل خارجية: أمريكية، اسرائيلية، وأوروبية.
واسهمت عوامل عديدة في العودة «غير الحميدة» إلى مستنقع التفكك والانحدار فالسياسات والاساليب القبلية والاسرية والعسكرة ثمرة كريهة للفساد والاستبداد.
وكارثة العراق واحتراب الفلسطينيين وتمزقهم يمثل أو يعطي التجلّي الأسوأ كعنوانين دالين للمنطقة كلها. فمصر قائدة المنطقة للوحدة والتحرر والاشتراكية، والمدافع الاول عن قضية فلسطين تمنع الحاج الفلسطيني من الدخول إلى أرضه المغتصبة خوفاً من الابتزاز الاسرائيلي. ويمتد الانحدار والتفكك رأسياً وأفقياً. فالتفكك القائم في النظام العربي في مستوى الرأس يمتد إلى الجذور الداخلية في كل قطر عربي مرتدياً خصائص الواقع. فالسودان بلد الخيرات والعاصمة المثلثة يتقاتل ابناؤه على الماء والكلأ. وهو إحدى سلال غلال العالم.
اما اليمن السعيد سابقاً والقريب العهد بكفر الانقسام وتسيد القبيلة والطوائفية والجهوية، فإن التفكك فيه يتخذ طابعاً مأساوياً. فالدولة بالمعنى المجازي تتخلى عن هيبتها ووظيفتها كدولة أو كهيئة حامية للنظام والقانون وحامية للمجتمع. وترتدي الزي القبلي، وتتحول إلى جزء أساسي في الصراعات الدامية، بل طرفا رئيساً في تفجير الصدامات، وتوتير الأجواء، وتسميم العلاقات المجتمعية. ففي حين تمتشق خطاب التخوين والتكفير ضد الجنوب، فإنها تمنع التسامح والتصالح بين أبنائه. كما تهيئ الاجواء للتصارع الدائم بين مناطقه المختلفة. وفي الشمال فإن «الدولة» تستجيب للداعي القبلي، وتحتكم إليه في مواجهات قبلية ومناطقية وطوائفية.
ويصل التفكك حد الصدام بين الدولة وحلفائها في صعدة، مجزرة آل مجلي، وهم مشائخ حلفاء للنظام في منطقة مواجهات عسكرية بينها والحوثيين. اما في إب فإن الدولة تتواطأ مع القبيلة ضد النظام والقانون وضد مسؤوليتها وهيبتها كهيئة أو مؤسسة، أو حتى تحالف عدة قبل وعساكر كحال الدول القديمة.
وتكون أحداث شرعب هي الاكثر مأساوية وفجائعية فالشيخ القيسي، أحد اعمدة السلطة، يلقى مصرعه على يد جنود من الأمن المركزي، ويسود اعتقاد بالتستر على أطراف معينة في مقتله الذي ارتبط بصراع على المصالح والنفوذ، ويكون الرد هو الآخر سيئاً ودامياً. وما يجري في شرعب وصعدة أنموذج فاجع «دال ومؤشر» فمنطقة شرعب كصعدة منطقة محاربة، ويقبل أبناؤها على التعليم، وهم منتشرون في جسم المجتمع اليمني وجهاز الدولة، وكانت لابناء شرعب مشاركة في حرب صعدة الاولى. كما أن شرعب حاضرة بقوة في الدفاع عن الثورة، وفي الحروب بين الجبهتين: الوطنية والاسلامية وهي حاضرة في الدولة والمعارضة، فهل لأحداث شرعب علاقة بصراعات الحكم؟ أم لها علاقة بالشعور العام بالغبن والحرمان من حق المواطنة والعائد من الخدمات والتنمية والبناء؟! أم أن الأمر عائد إلى الاحتقان السياسي المرتفع الذي يعم البلاد كلها، وخصوصاً الاقسام الحية منها!
إن التململ اليمني يبلغ تخوم الذّروة. وفي حين تتصاعد الاحتجاجات ضد الظلم والفساد والاستبداد فإن السلطة ترتد إلى جذرها القبائلي، وتستخدم الجيش كرديف للقبيلة وحام ومدافع عنها. ما تعمله السلطة في شرعب من تحويل الصراع إلى صراع بين منطقة وقبيلة هو ما عملته في صعدة فتجييش القبائل ضد بعضها، والزج بالجيش في الفتن القبلية والصراعات المذهبية أو الجهوية، أو بين المناطق المختلفة هو أخطر علائم التفكك والانهيار.
حرب 94 كانت الشرخ الاكبر بين الشمال والجنوب، وهذه الحرب الكريهة تتحول الآن إلى حرب وفتن وهي وإن كانت صغيرة ومتفرقة: الضالع، ردفان، أبين، صعدة، شرعب إلا أن سحبها الداكنة تتجمع في سماء يمن شديد المعانات والأمية والفقر والغضب الشامل.
معالجة العجز عن بناء الدولة، بالاحتكام للسلاح، ومحاولة حل قضايا التنمية والبناء والاستثمار بأشكال الفتن والحرب هنا وهناك هو منتهى الإفساد وشاهد الأفول. ويبقى الخطر الماثل أمام الجميع أن السلطة نفسها هي قائد الخراب «غير الجميل» في ظل غياب معارضة فاعلة وحية وحقيقية.
إن هذا ما يفتح الباب أمام فتن وحروب تبدأ ولا تنتهي، وإذا كان صلاح السلطة او إصلاحها ميؤوس منه، فإن غياب المعارضة يجعل المواجهة شاملة والكل في مواجهة الكل.
لا يدرك الحكم استحالة حكم اليمن باسلوب إيل وتر أو شمر يهرعش أو ياسر يهنعم، أو محمد بن علي الصليحي، أو المتوكل علي ابن اسماعيل، وانه بدون مشاركة ندية وعلى قدم المساواة بين الجنوب والشمال ودون مشاركة حقيقية لألوان الطيف المجتمعي والسياسي في حكم البلاد، فإنه ليصعب ان لم يكن مستحيلاً تفرد قبيلة أو حزب أو أسرة أو فرد بحكم اليمن، وحتى حكم تلك الاقوام الغابرة إنما كانت ثمرة تحالف عدة قبائل سرعان ماتتفكك وتنهار وتعود سيرتها الاولى بمجرد انفراط عقد التحالف، واختلاف المصالح.
وجل ما تعمله السلطة اليوم هو نهب موارد البلاد وعسكرة المجتمع والحياة، ونهب المال العام، وإغراق البلاد والعباد في الفتن والاحتراب والفقر والامية.