عبدالله مكارم وهشام السقاف يكتبان عن محفوظ شماخ

عبدالله مكارم وهشام السقاف يكتبان عن محفوظ شماخ

شمَّاخ الذي بكيت
 
عبدالله علي مكارم
 
كم هي صعبة على المرء منا تلك اللحظة التي يتلقى فيها نبأ فراق عزيز قوم! والأصعب منها محاولة تجميع الأحاسيس والمشاعر وصقلها في مقال؛ كون الدموع المنبثقة مثل الأنهر تحول دون ذلك.
لم نكن نعلم أن الأقدار ستجرّعنا كأس العلقم في أول يوم من العام الميلادي الجديد 2008 من صنعاء D.C يأتي نبأ وفاة الأب والخال ورجل الخير والتاجر الصادق محفوظ سالم شماخ. غيِّم الحزن على شبام حيث مسقط الرأس، وامتدت سحابة سوداء لتشمل وادي حضرموت، ثم ما تلاشي حتى عمَّت الجنوب لتزيده فوق حزنه حزناً عميقاً.. ثم اليمن.
 ليست شبام تبكي حرقة فراق «أبوي الحضارم» محفوظ شماخ وليست حضرموت وحسب، بل اليمن من أقصاه، إلى أقصاها.
في عنان السماء تلتقي حناجر المترحمين على الفقيد شماخ، منهم من سيتذكر حين هرب من ج. ي. د. ش إلى الشمال مثل كثير من أبناء الجنوب فكان شماخ الحصن المنيع والملاذ الآمن. ويبد أحينها إغداق النازحين بفيض من الكرم والإغاثة وحسن التدبير، التعريف بهم عند السلطات وترتيب أوضاعهم والسعي لتوفير فرص عمل لهم في الشمال أو في الخليج العربي.
ومنهم من يترحم عليه عندما بزغ فجر 22 مايو 1990، فهجرة الحضارم الداخلية كاد أن يكون الفقيد شماخ هو الوحيد الذي يستقبل أبناء جلدته وبكل ترحاب الشباميين المعهود يأويهم ويقدم لهم كافة أنواع الرعاية والمساعدة، وظل كذلك لعقود من الزمن متواترة ينفق من ماله ووقته الكثير والكثير.
ولن ننسى أبداً موقفه إبان حرب الانفصال في صيف 1994، حين تقطعت السبل بأبناء حضرموت والجنوب حيث بادر إلى بلسمة جراحنا والتخفيف عنا من خلال تضميد النزيف والإيواء وترحيل من يرغب إلى وطنه ودياره وأهله مبعداً عنه كارثة الحرب وأهوالها.
رغم أني لست من حضارم 48، إلا أن تلك المناقب والفضائل للفقيد شماخ لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزته بكثير. لقد رأيت مشاعر الحزن تعم اليتامى الذين تبناهم وعادوا إلى اليتم بعد رحيل الفقيد، والنسوة اللاتي أفنى فيهن لمسات إنسانية أبعدت عنهن شظف العيش وقساوة الدهر في مختلف اتجاهات الوطن شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً. هذا هو محفوظ سالم شماخ الأب والخال ورجل الخير المنفق بسخاء مشوب بتكتم المنفق حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله.
وأما التاجر الصادق، فإن رحيله مثَّل نكسة إقتصادية لقطاع التجار، كيف لا وهو الرجل المجاهر بكلمة الحق في كل محفل، لا يتوانى عن قول الحق أمام علية القوم شاهراً عليهم سيفه وقلمه وعقله، والجميع يذكر مقالات الفقيد ضد قراصنة المال العام والمفسدين، وضد الطغمة الفاسدة الجاثمة على الوطن.. وكم كنت شاهد عيان على حنكة وحكمة الشيخ محفوظ في إصلاح ذات البين بين التجار، يحتكمون اليه عند النوائب لفض المنازعات بينهم فكان نعم الحكم بشرع الله, الجميع يرتضي حكمه ويعمل به في الحال فاستحق بهذه السجايا أن يكون شيخ وحكيم التجار في اليمن.
هذا هو شماخ الذي بكيت, الرجل العفيف عن الوظيفة العامة، فرغم أن المناصب قد أتت اليه تجثو، إلا أنه صعَّر خده لها وأبى تلويث يديه وتاريخه الناصع.. وسيبقى محفوظاً في سويداء القلوب شامخاً حدقات الأعين مابقي في المعمورة وفاء.
ويبقى أن اقول بالحضرمي الفصيح والشبامي الصريح:
نعم يا بوعمر ذا الزمن   يذهب بالناس الأخيار

 
 
 
 
***
 
 

شمّاخ
 
هشام علي السقاف
 
 
< ما أسوأ لحظات العجز، عندما تختفي وتتملص من بين يديك الكلمات التي تحاول أن تؤدي بها واجباً ثقيلا حطّ على ظهرك بقضاء الله وقدره المحتوم، أو عندما تأبى الأحرف على التجمع وتستعصي المعاني على التشكّل فتتلاشى قبل أن يلامسها المداد، وتتفوقع الجُمل وتطير منك بعيدا وما تلبث تسّاقط أحجارا على الظهر المثقل بهمّ وألم الواجب!
 ما أضعفني حقاً! فليسامحني ابتداءً القرّاء والأهل في شبام وحضرموت وعموم اليمن!
< أكتب ما أكتب عن رحيل الشيخ الفاضل محفوظ سالم شماخ، ولم تربطني به علاقة شخصية، ولم تجمعني معه حظيرة الحزب والسياسة. ومع ذلك أشعر بثقل واجب العزاء بوفاته كشخصية وطنية عظيمة، أحدثت فيّ كل هذا التأثير عن بُعد وبدون تقارب حميم، وأظن أن مثلي آلافاً نكاد نتساوى مع الذين يعرفونه عن قُرب أو انتفعوا بخيرياته وهم كُثر كُثر.
< الشيخ محفوظ -رحمه الله- ظهر في هذا العصر الرديء فارضا احترامه وتبجيله وتأثيره بأفعاله وأخلاقياته وثقافته، كأنموذج حي للشخصية الحضرمية التي مازال يعك الكثيرون في تعريف وتحديد صفاتها وميزاتها بفعل أثرها الواسع في شتى أرجاء العالم وتمتد في جذورها إلى ما قبل امرئ القيس وملوك كندة ومن تلاهم من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والقادة المسلمين ومرورا بعلماء وشيوخ الإسلام الذين تبوأوا نشر الدعوة في أرجاء الأرض وليس انتهاءً بالأسماء الذائعة شرقا وغربا: علماً وسياسة وتجارة وأدباً وإبداعاً.
< الشيخ محفوظ بهذا الصيت والمحمودية اللذين تركهما في اليمن الكبير هو نتاج التتلمذ في مدرسة حضرموت بعلمها وإسلامها وحضارتها وإفرازها الروحي والسلوكي... ويكاد يجمع في شخصه وتعاملاته وفي انفتاحه ومواكبته لعصره معظم تلك الصفات النبيلة التي تسهل قراءتها في ميادين حيويته التي لم تقتصر على التجارة كإرث حمله من شبام بل لامست وأثرت في مضمار السياسة وتحمّل هموم العوام وفي العمل الجماهيري والتعاوني وتفوّقت في الفعل الخيري واهتمت برعاية الإبداع الثقافي ونشر الكتاب ولا تُغفل كتاباته المعمقة والجريئة في الصحافة.
< الشيخ محفوظ تأسّى بقدوة سبقته وأحسن اتباعها وكونت أنموذجه العطر، القائم -ضمن مقومات أخرى- على حب الآخر وفعل الخير كطبع بلا رياء والتحلّي بالشجاعة اللازمة للصدق في النوايا والمقاصد وإعلاء ثقافة الوئام والوفاق.
< نأسى على رحيله، نعم. ولكن التأسّي به أنفع وأجدى لنا, وله رحمه الله وتغشاه بغفرانه. إنا لله وإنا إليه راجعون.