قبل أن تبكي "ناصرة" لم أكن أعلم بوجود من يكرهه!! نكبة السد العظيم

مأرب – محمد الظاهري  - تصوير: صالح الدابية
انهارت في عينيها دمعة مقهورة وهي تتذكر ابنها يحترق في بيت من القش كالذي تسكن فيه. قالت: "قبل عامين مات ولدي في مَعْرَشْ يحترق، وهو يحاول إنقاذ سكانه".
باغتتنا العبارة الأولى يا أمي، رعشة يدك، ترنح صوتك الحزين والغاضب معا. على آخر الكلمات سرت فينا قشعريرة باردة في صباح مأربي دافئ.
حتى من يعرفون الحكاية، ومن شاهدوها، باغتهم الحزن وهم يسمعون ناصرة بنت محمد دواس تحكي وجعا صار أكبر من سد مأرب الذي أخذت مياهه منازلهم ومزارعهم.
"صالح"، نجل الشيخ عبد الله بن طعيمان، من مشائخ "جهم" وأحد المتضررين، ردد بانفعال: "لا حول ولا قوة إلا بالله!"، وكأنه لم يشاهد الحادث ألف مرة في عيني "ناصرة"، ومرة يوم احترق "أحمد".
في 27 رمضان 1426 أنقذ أحمد الزايدي 12 شخصا، وأبعد أنبوبتي غاز، لو انفجرتا لاحترق أكثر من "معرش" مبني من أعواد الأثل والقش.
من يومها بات يطلق على أحمد: "الشهيد أحمد"، وأصبحت زوجتاه: "أرملتي الشهيد"، وأربعة أبناء وطفلتان أصبحوا كلهم: "أبناء الشهيد".
وأنت، يا أمي، صرت "أم الشهيد". لكن من يكترث؟ لقد ذهب أحمد ولن يعود كما قلتِ، حاملا معه كل أحلامك بعودة الفرح ذات يوم.
وتتذكرين! كان لديك منزل كبير، ومزرعة تنتج 100 كيس من القمح كل موسم، وقطيع من الإبل والأغنام والأبقار أخذه السيل.
تتذكرينها بحنين، لأنك اليوم أرملة ثكلى في بيت من القش، تتجرع الفقر كل صباح، وترثي ولدها، وتلعن السد، مثل مئات الأسر في "الزور" و"الصوابين".
من يصدق؟
لا أحد من اليمنيين سيصدق أن هناك من يكره السد؛ فلطالما أشعرهم سد مأرب بالفخر، تاريخهم المنقوش على حجارته، حكايات الأجداد، وقصص مملكة "سبأ" العظيمة، ومهد تاريخهم.
بعد 1986 أضافوا إلى كل هذا اسم الرجل الذي أعاد إليهم أسطورتهم، متباهين بأصول زايد الخير المأربية، كما يؤمنون، ليفسروا علاقة دافئة ربطته بهم، وبمأرب خصوصا.
يلوح السد فيملأ اسم الشيخ زايد المكان، ويبدأ الاحتفال بالتاريخ، والحضارة، وتزاحم مشاعر الفخر حكايات "سبأ"، وقصص ملوكها، وتواريخ الأجداد.
ما يبعثه وجه السد في نفوس زواره من اليمنيين يشغلهم عن ملاحظة أشياء كثيرة، مثل ذهاب مياه السد دون جدوى رغم تمويل دولة الإمارات لقنواته أكثر من مرة. وجه السد يشغلهم عن ملاحظة وجود السد وغياب خيره، وعن ملاحظة غياب أبسط الخدمات في مكان أصبح على الأقل مزارا سياحيا يقصدونه من أقاصي البلاد.
وبالتأكيد يشغلهم ما يبعثه وجه السد عن سماع صوت "ناصرة" الحزين خلفه.
وحده من يأتي السد من الخلف يمكنه رؤية وجهه الآخر مرسوما في تجاعيد الكبار، وفي عيون الصغار، وفي حكايات الجدات. ومثلنا ستصدمه حقيقة أن هناك من يلعن السد.
كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا حين توقفنا في "الزور" بعد 19كم قطعناها من مدينة مأرب باتجاه الجنوب الشرقي.
استقبلنا الشيخ صالح بن عبد الله طعيمان، نجل أحد أهم مشائخ مأرب. قادتنا إليه شائعة كدنا نتجاهلها ونحن نسأل في مدينة مأرب عن منازل من القش، فيردون: "وين ذا؟".
ومع الشيخ "بن طعيمان" في منطقة "الزور" من قبيلة "جهم"، والشيخ محمد الزايدي شيخ "آل الزايدي" من "جهم" عرفنا حكاية وجع يتجمع مثل مياه السد منذ 21 عاما، دون احتساب سنتين قبلها اكتظت بالوعود التي لم تنفذ. وطفنا بعشرات المنازل ومئات الوجوه التي تشعر بأنها تخدع منذ عقدين.
ما الذي حدث؟
بدأ المئات بالنزوح من حوض سد مأرب بعد عام من افتتاحه في 1986 حين غمرت مياه السد قراهم ومزارعهم، وحياتهم التي كانت.
وحسب صالح بن طعيمان، حصل والده الشيخ عبد الله، شيخ قبائل حوض السد بعد 1984 على وعد الرئيس علي عبد الله صالح بأن يتمنى كل يمني العيش في منطقة حوض السد، لما ستحصل عليه من خدمات وتعويضات.
مضى 21 عاما قبل أن تصل الكهرباء في سبتمبر الماضي إلى منطقة "الزور" التي نزح إليها بعض سكان حوض السد من قبيلة "طعيمان".
وما تزال منطقة "الصوابين" القريبة منها ومنطقة النازحين من قبيلة الزايدي تنتظر اكتمال مشروع مدرسة بدأ في موسم انتخابات 2006 لتكون بديلا لمدرسة من القش.
كانت قبيلتا آل طعيمان وآل الزايدي تعيشان على أطراف وادي السد الذي تأتيه مياه السيول من أكثر من محافظة يمنية.
النشاط الرئيس الذي كان يعمل به سكان حوض السد هو الزراعة وتربية الماشية، فالأرض خصبة والمياه كثيرة. وبعد ظهور المضخات كانت المياه الجوفية أكثر وفرة.
حين بدأ السد باحتجاز مياه الأمطار المتساقطة في أكثر من محافظة، غمرت معظم القرى التي كانت في حوضه، واختفت معظم المزارع.
"أراكـ" هي أبعد قرية من قرى حوض السد، حيث منزل الشيخ عبد الله طعيمان القديم، ومدرسة ابنه "صالح" وذكرياته.
ما إن يبدأ موسم السيول حتى تحاصر "أراكـ" في مساحة صغيرة بين الجبل ومجرى الوادي لشهور، وربما أكثر، إذا وصلت المياه في السد إلى حدها الأقصى.
لم يعد أحد يعيش هناك سوى أسرة واحدة عجز كبيرها عن مفارقة ذاكرته. لكن لا يمكن هناك تربية الماشية أو القيام بأي نشاط لقرب مجرى الوادي منها.
وما زالت المياه تكبدهم خسائر فادحة حتى اليوم. فحين ملّ البعض الانتظار حاول إعادة استصلاح أرضه، لكن الأمر يبدو أشبه بمغامرة غير مضمونة إطلاقا.
تسقط الأمطار غالبا في مناطق بعيدة، فتفاجئ السيول، القادمة من أماكن سقوط الأمطار، المزارع والماشية والمعدات التي زرعوها بأكثر من طريقة لحمايتها دون جدوى.
انتظار طويل!!
فشل الشيخ صالح بن طعيمان عن إخفاء مشاعره وهو يقف في أطلال غرفة أبيه القديمة يقرأ على جدارها: "ألا يا دار لا يدخلك حزن/ ولا يغدر بصاحبك الزمان".
قال: "والله لقد غدر به الزمان، لقد وثق بوعود الرئيس، واليوم لا أحد يجيب وكأن شيئا لم يحدث".
وهو يضغط على كلماته شعرتُ بأن لا ثمن قد ينسي بدويا مسقط رأسه.
حنين "صالح" قاده في أرجاء المكان الذي يفترض أن نلقي عليه نظرة سريعة من بعيد، وقادنا "صالح" خلفه خلال أطلال قريته (أراك) كلها.
لست متأكدا، هل كان يكلمنا أم يفكر بصوت مرتفع وهو يتحدث عن ألعابه القديمة، عن مدرسته، وأستاذه المصري احمد كامل عجلان الذي تمكن من قطع مجرى الوادي المتدفق وجبن الجميع عن المحاولة؛ عن ذكريات منزلهم القديم الذي تسكنه اليوم الوطاويط؛ مضافة والده التي حولها إلى مدرسة قبل أن يبني الأهالي مدرستهم.
في طريق العودة أوقفنا على طرف مزرعتهم الأكثر قربا من السد. لقد حاولوا إعادة زراعتها أكثر من مرة بالقمح، ونادرا نجح الأمر.
المزرعة المجاورة كانت لحسن الزايدي، أحد من رافقنا، لقد قرر المغامرة، مثل "صالح"، ذات مرة، وأنفق أكثر من 700 ألف ريال لإعادة زراعتها وتوفير مضخة مياه. وقبل أن يحل موسم الحصاد غمرتها المياه، وأخذت "السيولـ" معظمها.
قريبا منها بقايا مزرعة "ناصرة"، التي كانت تنتج 100 كيس من القمح، لم يتبق منها سوى أمتار مزروعة بالطماطم، ولا أحد متأكد إن كانت ستثمر قبل أن يحل موسم المطر.
هناك الجميع يتمنى لو أن السد لم يوجد. وحسب حديث الشيخ طعيمان، والشيخ الزايدي، لم يكن لمشروع إعادة بناء سد مأرب أن يتحقق في ظل رفض رجال القبائل.
لكن مشايخ القبائل الذين حصلوا على وعود الدولة نقلوا إلى قبائلهم أحلام المستقبل. قال صالح: "أقسم الرئيس لوالدي بأن منطقة حوض السد ستكون أمنية لكل يمني".
وحصل سكان الوادي على تعويضات رمزية قدمتها دولة الإمارات يومها حتى يتم إعادة بناء مساكن خاصة بهم وتعويضهم عن مزارعهم وأملاكهم بشكل كامل.
حسب الشيخ صالح بن طعيمان، والشيخ الزايدي، تراوحت التعويضات بين 50 ألفا و200 ألف ريال يمني للأسرة، وهي أقل بكثير من أن تعدها الدولة تعويضا نهائيا.
حتى بأسعار الصرف عام 87 فإنها أقل بكثير من أن تكون ثمنا حتى لذكريات صالح طعيمان عن قريته "أراكـ".
زايد الخير ومأرب!
منذ 87 يلوك معظم أهالي حوض السد الفقر، في بيوت من أعواد الأثل يحشى القش خلالها ليصد حرارة جو مأرب الصحراوي، لكنه يجلب النار بشكل أفضل من قدرته على صد الحر.
حين زرنا المكان أخبرنا الأهالي بأن بيتا احترق قبل أسبوع، لكنه لم يسفر عن أضرار فادحة.
قليلون تمكنوا من بناء منازل من الطوب، كيفما اتفق، في مناطقهم الجديدة. فيما الغالبية يعيشون في بيوت من القش، ومع الأيام تحول الأمر إلى ما يشبه الاحتجاج.
لقد انتظروا كثيرا قبل أن يشعروا بالسوء، لقد غمرت مياه السد القرى والمزارع. وما تبقى من المزارع على أطراف الودي تغمر كل موسم أمطار، ولا تظهر إلا بعد أشهر.
بجوار منزل الشيخ الزايدي، المبني من القش كنوع من التضامن مع أبناء قبيلته ووسيلة للاحتجاج، حاول الجميع تصحيح فكرة أفزعتهم.
حين كانت "ناصرة" غاضبة قالت: "الله يسامح الشيخ زايد! ليش يبني السد؟!". كان الجميع يحاول تبرئة ساحة رجل يملأ وجدانهم بشكل ملفت.
جميع المأربيين مهووسون بفكرة أن الشيخ زايد ليس مجرد شخص ربطته بهم علاقة دافئة، بل رجل يرجع نسبه إليهم، ويعلقون صوره على كل جدرانهم.
إنه اعتقاد راسخ لديهم، حتى أن الشيخ صالح طعيمان متأكد من أنه يلتقي مع الشيخ زايد عند الجد نفسه، "فليح بن فلاح من قبيلة جهم".
قال الشيخ الزايدي: "الشيخ زايد أعاد بناء التاريخ، وقام بعمل لن ينسى له أبدا، لكن كنا نأمل أن تهتم دولتنا بتعويضنا".
هناك من قبض ثمن إقصاء قضيتهم. آخرون غيرهم حصلوا على التعويض نيابة عنهم.
قال الزايدي: "مسؤولو المحافظة باعونا. مسؤولون فاسدون في مأرب وصنعاء حالوا بيننا وبين حقوقنا، كما حالوا بيننا وبين الشيخ زايد رحمه الله".
كان يحول بينهم وبين الشيخ زايد مسؤولون فاسدون في صنعاء ومأرب، وبات يحول بينهم وبينه، الموت ومسؤولون فاسدون في صنعاء ومأرب.
ويبقى أن لا التعويضات التي وُعدوا بها دفعت، ولا مزارعهم عادت، ولا مدينتهم بنيت، ولا أحد سيتمنى أن يعيش في حوض السد.
بعض المسؤولين يصرون على أن أبناء مأرب حصلوا على التعويضات أكثر من مرة. منذ متى تدفع دولتنا تعويضا ولو لمرة واحدة؟ أستطيع تصديق مواطن بطمأنينة، أكثر من تصديق ألف مسؤول يمني.
قبل المغادرة
عشرات القصص ستحكى من منطقة حوض السد، التي وُعدت بكل شيء، ولم تحصل -بعد 21 عاما- على شيء سوى خيبة الأمل.
حتى الرجل الذي علقوا عليه آمالا عريضة رحل. كل ما لديهم هو متسع من وقت للدعاء على سد يكرهونه، وعلى مسؤولين تجاهلوا حقوقهم أو سلبوها.
سيكون لديهم متسع من الوقت، تحت سقف هش، لسرد حكاية "ناصرة"، وتغيير اسم منطقتهم الجديدة، الذي أطلقوه عليها ذات يوم، تيمنا برجل فجعت بموته أمة كما فجعوا.