حكاية وطن - عفراء حريري

حكاية وطن - عفراء حريري

 من وحي المهرجان الشعبي لذكرى يوم الاستقلال:
 بنرفض نحن نموت قولو لن رح نبقى
أرضك والبيوت والشعب ال عم يشقى
 هوإلنا ياجنوب يا حبيبي ياجنوب
رجاء من أحبائي القراء ضرورة الاستماع إلى كامل اغنية جوليا بطرس.
لأرض الجنوب وأهله حب وسلام.... وبنرفض نحن نموت
من قلبي لك حب لايضاهى ياعروس البحر رغم حزنك ودمعك وآهاتك خلف زيف أنوار وإضاءات الطرق والشوارع النظيفة والاسلفت المتجدد كل يوم ، لماذا؟ لست أدري.
يُحكى: كانت هناك مدينة تسمى"عدن" ووطن يبدأ بالبحر وينتهي إلى البحر، بين ثناياه تمتد الجبال والسهول والأودية والاشجاروالصحارى وفي باطن كل ذاك تكمن ثروة "وطن" يطلق عليه الجنوب ظل في حكم إستعماربريطاني مائة وتسعة وعشرين عاماً ووحدها "عدن " كانت مستعمرة وماتبقى " "سلطانات وإمارات...وإلخ. وبأكمله يدعى الجنوب.. جنوب تميز أهله بالبساطة والطيبة كما في "عدن"، والكرم وحسن الضيافة كما في باقي الجنوب ، وهؤلاء شتتتهم ويلات الحروب قبل وبعد الاستقلال، لكن ظلت "عدن" وظل الجنوب.
 كان الأمس لأهل الجنوب زيفا في ظل حكم شمولي ومنطق المفاضلة المناطقية والمحسوبية للأكثرقربا، وتم الحجر على ثروة الأرض عن أهله ، بحجة رفض عدم التدخل الأجنبي وغيرها من الحجج (لغة السياسة التي لاأفقهها) وفي ظلاله "كان ميلادي" وكانت "عدن" وكان "الجنوبـ" ( براءة الطفولة ، وأحلام الشباب)، عمر قضاه أهل الجنوب في أناشيد الوطن الموحد وشعار الوحدة. وتحقق مدلول الشعار22مايو1990، لكن غابت معانيه.
 في صيف 1994م لم تعد "عدن" ولم يعد الجنوب! ثلاثة عشر عاماً مضت، وعلى عجالة وسبق وإصرار وترصد وعن عمد غابت "عدن" وغاب " الجنوبـ" في كنف حكم أكثر شمولية ومركزية. ومكنونات الجنوب في باطنه وسطحه وبحره وحدائقه وصحاريه وأوديته - أي كل ثروة الجنوب - تحتكرها فئة قليلة. والجنوب بثروته المحجور عليها في زمن مضى تمتع بها غيره.
وظل في أرض الجنوب بركان سخط طويل ، ففي تقسيمات النظام القائم يتمتع أهل عدن بأقل درجات المواطنة... عدن مسقط الرأس ودفء المحبة، ومثلهم أهل الجنوب.
بركان السخط الطويل حلت ثورته و تناثرت حممه في كل الجنوب.فبدأت مسيرات السلم والسلام تغزو الجنوب ، وكانت مسيرات الذكريات تحمل أنات أوجاع القهر وألمه (7 يوليو،1سبتمبر، 14أكتوبر.. ضد كل ماجاء وصدر وورد على مبدأ ديمقراطي " مساواة وعدل وحرية "، ضد كل مايلي :
< مؤلم حين ابتدأ الابتزاز من أهلها لأهلها وانسلخ الكثير منها ليعود حاقداً أومتسلقا على حساب قوت البسطاء فيسلب وينهب ويترقى في وظيفته. وتولى الأوباش مناصب قيادية صعدوا في السلَم الوظيفي وحازوا كل مستحقات الوظيفة، ناهيك عن الأراضي والبيوت التي تعود ملكيتها لآخرين، لأن مؤهلاتهم: " فاسدون" (المفرد للمؤهل فاسد مع درجة الشرف ).
< المرافق الحكومية ممثلة بمدراء العموم، وأكثرها باعثا للضيق: التربية والتعليم؛ جيل من الضياع يتخرج إلى مهاوي البطالة، اعدا من كان أبوه بمؤهل فاسد، وإن كان مستواه العلمي ضعيف وتسرب من التعليم. زيف في مناهج التعليم ومدارس تهدم لتبنى، مدارس لاتحمل مواصفات البناء الدراسي وتسور بالأسواق التجارية (سردته تقارير الحكومة).
< مصانع ملِّكت دون وجه حق للمؤسسة الاقتصادية، وخصخصت دون أن تخضع لتخطيط علمي في منهاج الاقتصاد والإدارة (ونهبت من قبل إداراتها وشرًد من بها) وطابور طويل سيتم تشريدهم رغم كل كشوفات فساد الإدارة وبيانات العمال والعاملات، وخير مثال وشاهد مصنع الغزل والنسيج.
< فساد في ظل عملية الإصلاح الإداري، واستطال طابور البطالة ليحظى بالوظيفة الأولى وبالأرض وبالسكن مواطنو الدرجة الأولى.
< ثم جاءت موجة وموضة منظمات المجتمع المدني ولم تحظ بالاهتمام والرعاية سوى تلك التي أنجبتها الحكومة وأخرى يرأسها -أوترأسها- من تمتع ببطاقة زرقاء عليها صورة الحصان أوعضوا في الأجهزة الأمنية المخفية. تجارة في قضايا الإنسان " التمكين ، التوعية ، التدريب ،...الخ".
< معالم المدينة طُمست وأُستبدلت بمعمارآخر، وكأنها لاتحمل تاريخاً، بل يجب ألاَّ يكون لها تاريخ. معالم المدينة الحزينة التي كسا شواطئها الطاهرة التلوث من أبنية تنوعت: " الفلل اللوكس، معارض السيارات ، العمارات. حتى المساجد لم ترحم من الهدم.
< سدت منافذ الهواء العليل عن أهل المدينة وصارت النزهة لمن هوقادرعلى دفع ثمن النزهة خلافا لقانون دولي ساد العالم والتزم به العالم ماعدا من تولى زمام أمر هذه المدينة.
< مدينة عن عمد تم محو معالم تاريخها لتبقى المدينة محتفظة بما تمتاز به أسوة بما يسبقها من محافظات في أولويات التقسيم الإداري الذي شقلب حدود المناطق و المحافظة على معالم تاريخ المدن.
< والافتراءات والتشكيك بأخلاق نساء عدن، بل وأهل الجنوب عامة وتستجيب الأجهزة الرسمية الأمنية فيتم الاعتقال والحبس والتحقيق.
< وفي تعسف شديد انهارت منظومة القيم والأخلاق في ظواهر التسول وما يلحقه من إهانات للنفس وعبث بالجسد خاصة للنساء والأطفال فتية وفتيات.
< وإعلان عدن منطقة حرة سياحية بلا مقومات، كما زعم البعض امتازت بالفنادق والشقق المفروشة للاستثمار في مشاريع تمس الأخلاق لورود يموت فوقها الجمال لتستهلك وترمى بأبخس الأثمان وتغيب عنا بعد أن كانت تزين حقول الأرض.
< ومثلها رحل الأطفال عبر الحدود بمعدلات تدمي القلب قبل أن تدمع العين حتى وإن لم يكونوا كل أولئك من الجنوب، فإن لهم في فؤاد الجنوب قدسية لبراءتهم المغتالة - ففؤاد الجنوب طيب بطبعه.
< تلاه زواج سياحي وضحايا ومتاع وارتفاع من هرم الجريمة إلى قاعدتها وأتقن الناس التفنن عند ارتكابها.
< " حقوق المواطنة " لأنها مصنفة وفقا للبطاقة المحمولة ولونها الأزرق وخانة القبيلة والمنطقة "فإن فاه فوك حقاً" عذبوك عن أمرما يؤرق عينيك من أجل الوطن فأنت خائن وعميل ويثبت عليك ذلك ويخضع الكل لمنطق الغاب والقوة ويبلغ الخوف مداه في نفوس من تبقى من أهل هذه المدينة، ويلتزمون الصمت والانكساروالاحباط ويبحثون عن أوطان أخرى ، لأن شكواهم ظلت في باطن الأرض ولم يجدوا من يغيثهم.
في كل فرع من مرافق العمل إدارة فاسدة وقضاء معظمه فاسد وجهات تنفيذية لاتقلهم فساداً ومن كان نزيها مع بعض الشك في هذا يظل يهز رأسه كممثل في فيلم هندي.
< سلطة محلية لاتتمتع بأي استقلالية فلا تهش دبورا ولا تسحق إثماً وإنما تشجعه لينتشر، لأنهم من نفس الطيف. تعلم بما يدور فتضم مصلحتها مع ظلم إن لم تجد مصلحتها في خير.
< ومواقع ومرافق فيها كل أصناف الإهانة والنهب بدعوى الرعاية للحقوق ، والدسائس كثيرة فيها.
< اعتقال النوبة وباعوم وغيرهم...وغيره من القهر.
والمبدأ الديمقراطي " مساواة وعدل وحرية " وكل ماجاء به أضحى أكاذيب. حكايات من الغبن والخداع والغش والتدليس والخيانة طيلة 13 عاما. فمنذ 1994م وأهل الجنوب يتحلون بصبر أيوب ، والأرض الجنوبية من أدناها إلى أقصاها تنتظر يُلتمس شيء من التغيير فيما ذكر أعلاه وفي غيره مما سهوت عنه ، وليكن على الأقل في ذكرى يوم الاستقلال مثلما كان حلمهم بالأمس وهم من ساروا في دروب المحن والصعاب إلى تحقيقه (الاستقلالـ" و"الوحدة ").
حاول النظام إخماد بركان السخط فأطلق وعوداً تلو وعود، تلقى أهل الجنوب كثيراً من الوعود: " الإصلاح الإداري والمالي ، الاستراتيجيات ، تغيير السياسات ،اللجان والمجالس واللقاءات والقرارات وغيرها: في شعارات مهترئة كالأقمشة التي كتبت عليها ويافطات الدجل: " وطن واحد ومسؤولية واحدة "، " معا في محاربة الفساد "، مرورا بتحول الوعود إلى شعارات التهديد والترهيب: "الوحدة خط أحمر، انتهاء بالمبادرة التي بلا تفاصيل وآليات.
 وفي زخم تكاثر حمم بركان السخط والصبر الطويل والانتظار، هلًت الذكرى / أربعين الاستقلال. وعوضاً عن تنفيذ الوعود، قررالنظام أن يكون أول غيث في الوعد المهرجان " ذكرى الاستقلالـ"، فلم يكن من مناص لدى أهل الجنوب سوى مسيرات السلم والسلام، كما كانت ذكرياتهم السابقة للتواريخ والأسباب أعلاه.
 قبيل المهرجان بأيام إذا بالمدينة تصبح ثكنة عسكرية: جنود في كل مكان ، وأسلحة متنوعة م/ط، ودبابات تعبر محمولة فوق عرباتها أغلقت معظم منافذ المدينة، وازدادت ضيقا بالوافدين وجوه جديدة تغزو المدينة لا تعرف حتى إشارات المرور، أطفال المدارس يتدربون على العروض من الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهراً، ومن الثالثة عصراً حتى السابعة ليلاً، حتى هؤلاء لم يسلموا من الوعود بأنهم سيمنحون مبالغ مالية ابتدأت بأحد عشر ألف ريال، ثم سبعة آلاف ريال. وهم أيضا كانوا يشاهدون تلك المظاهر المسلحة و من لم يحضر إلى مرفق العمل يوم الخميس (وهويوم إجازة) سيخصم من راتبه ثلاثة أيام. وكان الموظفون والموظفات يؤخذون قسرا، وتعبأ الباصات ببعض الشباب مقابل مبلغ ألف ريال، وحول أستاد المهرجان لم يكن يرفرف سوى علم الجمهورية وعلم الحزب الحاكم... لماذا؟
وفي الليلة الأولى قبل يوم المهرجان حوصرت ساحة الحرية بالأسلحة الثقيلة، سيارات (م /ط) والجنود بمختلف الأزياء العسكرية، وفرِّض الحصار على كل المنافذ التي تؤدي إليها. ففي تلك الساحة كان موعد لقاء أهل الجنوب. لم يكن المكان مجهولا ولا الزمن، حتى السلطة كانت على علم أين سيعقد مهرجان البسطاء (أهل الجنوب). المدينة صارت ثكنة عسكرية، كل الأجهزة الأمنية والعسكرية بكل الأزياء أصناف ألوان الميري السيارات التي تحمل ذات ألوان أزياء العسكر والجنود وبمختلف الرتب حتى المرور.. ضد من؟ ولماذا؟
في مهرجان السلطة كان الفرح زائفاً،؟ وفي فضاء صغير سدت منافذه الرئيسية تجمع أهل الجنوب: أجساد متلاصقة من الازدحام لكثرتها جاءت من كل الجنوب. هناك في محطة مواصلات الهاشمي ( الشيخ عثمان) احتضنتهم عدن مثلما وهبت حنانها كل أهل الجنوب؛ ينشدون و يرقصون وبحت أصواتهم بالشعارات " عن حق الجنوب " بلا عنف ، بلا سلاح، يحملون السلام على أكفهم البيضاء المتجعدة من ضنك المعيشة. وقرئت الكلمات. وأنصتوا ورددوا شعارات الحق المسلوب والوفاء بالوعود رغم أشعة الشمس وقد حباها الله دفئاً وليس حراً شديداً ، حولهم العساكر والجنود والأطقم وطائرة مروحية تحوم فوق رؤوسهم ، كانوا يتوافدون إلى تلك الساحة ويتعانقون لقاء أحبة وأهل الجنوب على الأرض وليس في خريطة التاريخ فقط.
انتهى المهرجان الشعبي ، وظل البعض معتصماً وحولهم العسكر. وفجأة نبش صدر العسكركما تنبش القبور فمقابل الحجارة رصاص حي ومسيلات دموع حارقة. مقابل الكلمة طلقة موت. أغلقت الشيخ عثمان عن مداخل المدن الأخرى حيث كان المهرجان الشعبي يسمو بالوطن عزة وكرامة.
وفي الطرف الآخرمن نقطة الدخول (دار سعد وما قبلها من نقاط) تحول الجنود إلى قتلة لشعب مسالم يفترض بهم أن يحموه، أراد الاحتفال بالذكريات ، أراد أن يطوف ساعداً بساعد ويجمع كفاً بكف مع مناضلي حرب التحريرليصيغوا لوحة مهرجان شعبي لأهل الجنوب وطنهم جميعا. كان النهار بعض الفرح، وقبل المساء وكل المساء حزين حزين.
وبين بيني كنت أتساءل في نفسي: أيعقل كل ذلك لتنفيذ الوعود! لم يبق سوى صمت المدينة وحزنها وفرح النجاح بالمهرجان واللقاء.
مسكين هذا الجنوب وثكلى هي المدينة!
كان هناك جرحى وقتيل وعلا الصمت. طاف حزن مدن المدينة وهي تقطع أوصالاً فتفصل ليس المناطق، بل والشوارع، والحواجز ثقيلة ولكن ليس أثقل من هموم أهل الجنوب.
كنت أنتظر مهرجان الاستقلال لتنفيذ الوعود ولكن حذار أن تصدق أنك في ظل الديمقراطية وأنك مواطن وتستطيع أن تحظى بكل الوعود.
 طاف برأسي أن الوعود حتما ستنفذ في ذكرى الاستقلال، وطالما وأن الوعود يجب أن يتم الوفاء بها في أعراف العرب، فلابد أنها تحتاج إلى كل هذه القوة من العتاد والجنود والسلاح، وحلَّق في خيالي مهرجان الوعود!!!أدركت حينها أنه مهرجان ذكرى الاستقلال وحده ليس إلا.
لم أحدثكم عن هذه المدينة وعن هذا الجنوب وأنتم أكثر مني معاناة فيها وفيه!
إن الوطن فقط لأولئك الذين يستطيعون امتلاك الأرض بما فيها ومن فيها وما عليها، ومن ضمن ذلك هذا الكائن الحي الناطق الذي أمامه دهر طويل ليصبح ذا قيمة ويكون إنساناً.
فالوطن لكل أصحاب النفوذ والقوة ولكل من أستطاع أن يكون....
إنهم وطنيون وأكثر منا وطنيه. كن فاسدا فأنت وطني وحدوي ومواطن..
وأصل الحكاية: تذكروا أنه الجنوب ولن يصبح في خبركان، و إنها "عدن " ولن تصبح في خبركان.
فحكاية الاستقلال على لسان المناضلين حكايات طويلة لسنين مرت وراء السنين ، قالوا كثيرا عن الأرض والإنسان، عن عصر القهر...
وحكاية وطن إن هان علينا تهن معه كل القيم والمبادئ والأخلاق وحتى العمر والحياة.