اليمن وألمانيا: لمَ لا يكون الجنوب شرقاً؟ 2 - أشجار وضرائب.. وكلاب

الوحدة هناك حلم صغير وفرصة عمل ونزهة مسائية رفقة كلب ذي ظهر مستقيم، فيما الوحدة هنا «صنم» يستدعي تملقه والتمسح به، وإرضاءه بالأضاحي كل موسم.
الحديث عن الفجوات بين الشرق والغرب الألمانيين يبدأ بالاقتصاد، ويعرِّج على الثقافة، بلوغاً إلى الكلاب.
نعم. الكلاب التي تباينت في السمات والملامح بفعل 4 عقود من التشطير، فصارت أحد ينابيع السجال ما بعد الوحدوي بين الشرقيين والغربيين.
«كلبنا يتمتع بظهر أكثر استقامة، ما يجعله أقل عرضةً لمشاكل الورك التي قد تقضي على سلالته»، قالت البرلينية الشرقية غيرليند شولتز لوكالة أسوشيتد برس.
شولتز التي تعمل في حقل تربية الكلاب منذ20 عاماً، أضافت باعتداد: كلابنا تتمتع بصحة وشخصية أفضل، وكل ما يميِّز الكلاب الغربية المهجنة بإفراط، هو المظهر الحسن».
المظهر الحسن! إنه الاستعلاء الغربي مرة أخرى. يظهر هذا جلياً في تعليق غروبيه، وهو برليني غربي محب لكلاب الشيبرد. قال: كلابنا أجمل. في الشرق لم يكن مسموحاً لها بمغادرة دولتها، أما في الغرب فكان لدينا سوق مفتوحة، وهذا مطلوب للتوالد الناجح».
الكلاب مفخرة قومية ألمانية أخرى، والسجال حول «أيُّها الأفضل» ليس مجرد خلاف بين المربين، بل تنازع على التفوق الخلاَّق بين الشرق والغرب، حسب مراسل الوكالة الامريكية.
***
في هامبورج بدت الكلاب المتأنقة و«المتدلعة» نجوماً سينمائية في ضاحية هوليودية. والحق أنها لاحت مبدعة في مدينة الفنانين والمسرحيين والموسيقيين. كانت تنازعهم مكانتهم.
عند ضفاف البحيرة التي تتوسط المدينة كانت تزاحم البشر. وكان يصعب على أي صحفي عربي أعتاد أن يرى وجوه السياسيين فقط، أن يميِّز الشرقي منها عن الغربي. حتى نورين زميلتنا البحرينية المولعة بهم، اكتفت بالتقاط صور تذكارية معهم كأي معجبة بنجم سينمائي، ولا أظنها تجازف بالحكم أيها أفضل الشرقي أم الغربي، رغم يقينها بأن حكمها لن يُعد تدخلاً في الشؤون الداخلية للوطن الألماني الواحد!.
مخلفات تشطيرية
في 19 نوفمبر1999 سأل مذيع ألماني الرئيس علي عبدالله صالح عن أهم المشاكل التي تواجهها الوحدة اليمنية، وذلك بعدما قدَّم لسؤاله بإشارة إلى أن ألمانيا ذاتها تعاني من مخلفات التشطير. قدَّم الرئيس تهانيه للشعب الالماني بمناسبة احتفالات الوحدة الألمانية، قبل أن يجيب عن السؤال بالقول: مهما كان هناك من صعوبات تعاني منها الوحدة الألمانية أو اليمنية فلن يكون ذلك أسوأ من التشطير الذي كان قائماً... صعوبات التشطير أصعب من مخلفات التشطير والإرث الماركسي والإرث المناطقي». ثم استطرد: الوحدة أكبر وأسمى من أي مخلفات تركها عهد التشطير.
***
المحقق أن مخلفات التشطير ما تزال ماثلة في ألمانيا رغم مرور17 عاماً على وحدتها. الذكرى السنوية لإعادة التوحيد، وإزالة جدار برلين، مناسبة مفضلة لوسائل الاعلام الألمانية ومراكز البحوث لإجراء الاستطلاعات وجلب المعلقين والمؤرخين للحديث عن المصاعب التي تواجه الوحدة الألمانية، بخاصة الفجوة الاقتصادية بين الغرب (صاحب المعجزة الاقتصادية قبل الوحدة)، والشرق.
***
قبل سنوات كاشف المستشار السابق شرودر مؤتمر حزبه الاشتراكي بأن ألمانيا بالكاد بلغت نصف الطريق لإعادة التوازن بين الغرب الرأسمالي والشرق الاشتراكي، وقدرها كي تؤمن المساواة أن تستأنف رحلتها الوحدوية. «انتهينا من نصف المسيرة... دعونا ننجز النصف الآخر»، قال شرودر الذي خسر حزبه الانتخابات قبل عامين، وحلت مكانه ميركل كأول شرقية تتبوأ المستشارية في ظل الوحدة المباركة!
 
ردم الفجوات
في العام الأول للوحدة (هناك) كانت حصة المواطن الذي يقطن ولاية غربية من الناتج القومي المحلي تبلغ أكثر من ضعفي شقيقه الشرقي.
في العام ال15 للوحدة كانت الفجوة قد ضاقت كثيراً، وبلغت حصة الشرقي نحو 80٪_ من حصة الغربي. خلال الفترة ذاتها أنفق الغرب على الشرق نحو 80 مليار يورو سنوياً. أي ما كان يوازي ثلث الناتج القومي المحلي للولايات الشرقية الخمس سنوياً.
ببساطة فإن الألمان يضخون عشرات المليارات من اليورو سنوياً لرفع مستوى المعيشة في الشرق.
حتى نهاية 1994 بلغ حجم الأموال الحكومية المحولة إلى الشرق 640 مليار مارك. وفي العام ذاته كانت الخزينة اليمنية فارغة جراء الحرب.
في عام 1995 تم تحويل 185 مليار مارك إلى الشرق. سنتذاك حققت الولايات الشرقية أعلى معدل نمو اقتصادي في أوروبا 7.3٪_. وبدءاً من يناير 1995 فرضت الحكومة ضريبة إضافية على مواطنيها أطلقت عليها ضريبة التضامن مع شرق ألمانيا، وقدرها 7.5٪_ من ضريبة الدخل والأجور.
غرت هاملر الألماني الشرقي، وهو المترجم واسع الاطلاع الذي حاضر في الاشتراكية العلمية في عدن في الثمانينات، يدفع، حسبما قال لي، 1٪_ من دخله كضريبة تضامن. «إنها ضريبة المواطنة المتساوية»، قال.
 وعندما تحدث الرئيس صالح إلى التلفزيون الألماني عن مخلفات التشطير دون تفصيل، كان الأصدقاء الألمان وفي طليعتهم شرودر يحللون هذه المخلفات إلى أدق التفاصيل، وهم ما يزالون حائرين إزاء معدلات البطالة المرتفعة في الشرق (20٪_). وتواجه ميركل ذات التوجه الـ«تاتشري» انتقادات مستمرة جراء سياساتها التحريرية والضريبية التي لاتساعد علي خفض معدلات البطالة.
***
لا محرمات في ألمانيا. وإذاً لا محظورات في طرح الأسئلة الوحدوية (= الانفصالية). كذلك يتم تفكيك الوحدة (هناك) إلى عناصرها الأولية دون حرج من المساس بـ«المقدس».
الوحدة على الطراز الألماني ليست حاصل جمع (= ضم) جغرافيتين، بل تركيبة معقدة من شخصيتين اقليميتين: لكل سكانها واقتصادها وعاداتها وسماتها وتطلعاتها ووعودها وألعابها... وكلابها أيضاً.
عاصمة منزوعة السلاح
الثقل التاريخي لبرلين كثيف الحضور في عاصمة الوحدة. فإلى السور، الذي صار جزء منه معروضاً في متحف أفتتح مؤخراً، ودور الأوبرا والمتاحف وبوابة دخول الغزاة ودحرهم، وإلى قصور القياصرة، يوجد البرلمان الذي أعيد تصميمه مع الاحتفاظ بآثار الغابرين، وفيها عبارات نقشها ضباط سوفييت علي الجدران.
 التصميم الجديد للبوند ستاج(البرلمان) أبقى على قاعة التأمل!
لدى الألمان نواب يتأملون ولا يحسنون «البصم» على مشاريع الحكومة وموازناتها واعتماداتها الإضافية وحساباتها الختامية. القاعة مفتوحة للنواب الكاثوليك والبروتستانت. بعض هؤلاء يزورها مطلع الأسبوع لغرض التأمل. وفيها رموز مسيحية وصلبان ومعدات صلب أيضاً. والأخيرة قد تجدي نفعاً في مقر البرلمان (هنا).
ماذا عن النواب المسلمين، أليس من حقهم التأمل؟.
«يوجد 6 نواب أتراك لكنهم لم يجربوا هذا القاعة»، قالت كايتا رايسنر، الموظفه في العلاقات العامة في البوند ستاج. شعرت كايتا بالحرج، وقد اجتهدت من أجل إنقاذ سمعة علمانية ألمانيا، وهي تدلنا على إتجاه القبلة: هناك حيث الدرج. وبنبرة اعتذارية أردفت: «عندما أعيد بناء البوند ستاج لم يكن الصراع بين الحضارات سؤالاً ماثلاً».
أمضينا نهاراً كاملاً في البرلمان. التقينا بنواب ومسؤولي علاقات، تجولنا في ردهاته وممراته. وتناولنا الغداء مع سيغموند إيرمان نائب رئيس اللجنة البرلمانية للثقافة والاعلام. ثم التقينا غيدو هانين مدير الصحافة والاتصالات،41 سنه، وهو صحفي سابق، درس اللاهوت الكاثوليكي (ثلث الألمان كاثوليك)، ودرس تالياً القانون والفلسفة.
إلى الأعمال الروتينية وأهمها صوغ خطابات رئيس البرلمان، يقوم هانين بدور الوسيط بين البرلمان والرأي العام. «نتلقى سنوياً في المتوسط 9 آلاف استفساراً من المواطنين حول أنشطة البرلمان، مهمتنا الرد عليها». أضاف: بعض الأسئلة عجيب، ولا يتصل بأجندة البرلمان أو مواقف الكتل النيابية، بل يتصل بتصميم البوابة وشكل القبة وارتفاعها وحجم العلم الاتحادي الذي يزيِّن سطح المبنى...الخ». تابع: «نرد على أي سؤال حتى وإنْ بدا لكم سخيفاً». ( لعل نوابنا هنا يغبطون المواطنين الألمان، إذ لا أحد يلتفت إلى أسئلتهم الموجهة إلى الوزراء).
ينتخب البرلمان المستشار فقط، وتوصف المانيا بأنها دولة مستشارية. ويجتمع ممثلو الشعب لفترة تقارب 23 أسبوعاً خلال السنة.
في القاعة يخصص لكل كتلة حزبية صفوف متجاورة من المقاعد. وللبرلمان صلاحيات تشريعية واسعة، لكن هذه الصلاحيات لا تشمل الحقوق الأساسية المنصوص عليها في القانون الأساسي (الدستور)، وأهمها احترام كرامة الانسان وحمايتها، وحق الفرد بتنمية شخصيته بحرية، وحرية الاعتقاد الديني، وحرية الصحافة. وتتولى برلمانات الولايات التشريع في مجالات التعليم والاعلام والشرطة والصحة..الخ.
إلى الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات، يدير الألمان شؤون مناطقهم من خلال حكم محلي (إدارة ذاتيه) واسع الصلاحيات. وعلى الجملة فإن الألمان ينعمون بـ«وطن كبير مهاب، ووطن صغير سعيد»، على حد تعبير المفكر الفرنسي الكسيس دو تكفيل.
 
قُبَّة وقِبْلة
التصميم الجديد للبرلمان الذي تم الانتهاء من تنفيذه عام 1999، حوَّل السلطة التشريعية إلى قِبْلَة للمواطنين. على سطح الِقبْلَة قبة ساحرة يرتادها المئات من فئات اجتماعية وعمرية مختلفة، كل مساء. ومن أعلى القبة يمكن للزائر أن يشاهد أبرز معالم برلين.
وإلى القُبة، تُنظِّم المدارس والجامعات زيارات لطلابها إلى قاعة البرلمان وقاعات اللجان ليتشربوا الديمقراطية.
دخلنا القاعة الكبرى بكاميراتنا، نحن الصحفيين العشرة الذين غالباً، ما نُصد عند أبواب الثكنات البرلمانية المزنَّرة بالأسلحة في بلداننا، وإذا سُمِح لنا بالدخول فمنزوعي السلاح: لا يُسمَح لمندوبي الصحافة اليمنية في البرلمان اليمني الدخول بكاميراتهم إلى شرفة الصحافة. ولا يُسمَح للصحفي تصوير قاعة البرلمان نهائياً، ومصدر الصحافة المستقلة والمعارضة الوحيد لصور اجتماعات البرلمان هو المؤسسات الاعلامية الحكومية كوكالة سبأ أو التوجيه المعنوي.
لم نكن وحدنا في القاعة عند الخامسة مساء، إذ لفت انتباهنا وجود المئات من الأطفال والمراهقين والمراهقات، جالسين على الشرفات المخصصة للمواطنين. جاءوا مسلحين بكاميرات تصوير!
 
عاصمة محددة الإقامة
التوصيف الأكثر دلالة لجمهورية المانيا الاتحادية هي أنها دولة مركزية إلى حد كبير تشريعياً ودولة فيدرالية إلى حد كبير تنفيذياً.
الثقل التاريخي للعاصمة برلين الذي يعود إلى القرون الوسطى، لم يمنحها ميزة تفضيلية في المجالات الأخرى. للدقة، هي عاصمة محددة الإقامة، محدودة التأثير. للتمثيل فإن الثقل التجاري والاعلامي والفني يظهر جلياً في هامبورج ثاني مدنية من حيث السكان (1.7 مليون نسمة)، وفيها أهم مرفأ تجاري، وأكبر الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات توزيعاً، وبين هذه المجلات دير شبيجل. ويوجد في هامبورغ (وليس برلين) مكاتب تمثيل للمئات من الشركات الاوروبية والشرق أسيوية والاميركية.
إلى ذلك، فإن هامبورج أجمل المدن الكبرى، أجمل المدن الكبرى فحسب. ومُذ تحمست لهذه المدينة المطرزة بالخضرة (نصف مساحتها مغروس فيما المعمور مطوَّق بالخضرة حيث وقعت عيناك)، فقد اضطر اصدقاؤنا الألمان إلى تصويب الحكم الحماسي الذي اطلقته: هامبورج الأجمل بين المدن الكبرى، وهناك العديد من المدن الصغرى التي تفوقها جمالاً.
إليكم بيانات إضافية: 28٪_ من مساحة هامبورج محميات طبيعية، وفيها 120 حديقة، وأكثر من 200 ألف شجرة على ضفاف وجزر الشوارع الرئيسية والفرعية.
***
فرانكفورت هي العاصمة المالية لألمانيا، بالتالي لأوروبا. وفيها المقار الرئيسية لأكبر البنوك في ألمانيا والاتحاد الأوروبي. وفيها المعرض السنوي الأشهر للكتاب في العالم. وفيها المطار الذي أذاع شهرتها في الأرجاء.
«كثيرون من ركاب الطائرات التي تهبط في مطارنا لا يدرون أية متعة يفوتونها لعدم دخولهم مدينتنا»، قالت الحلوة!
دولتشيك كانت المكلفة بتعريفنا على المدينة مساء الخميس 25 أكتوبر الماضي. اسمها إيطالي. وحسب مترجمنا واسع المعارف، فإنه يعني الحلوة.
«المقرات الرئيسية لكل البنوك في المانيا تقع هنا»، تباهت. ثم استطردت: «الأنشطة المالية في فرانكفورت تعود إلى 600 سنة». وكمن يريد سد أية منافذ للتشكيك في روايته، رفعت يدها، وإشارت بإصبعها نحو مبنى فريد: هذا دار البلدية وعمره الآن 500سنة». كنا ساعتها نقف في مركز المدينة.
 جعبة الحلوة ملآي بالأعاجيب لكأنها «جعبة حاو».
«في الحرب الثانية دُمِّرت وأُحرقت كل المباني ونجا دار البلدية والكنيسة»، قالت.
«في مدينتنا ذات التقاليد الليبرالية الراسخة يعيش 650 ألفاً، ربعهم من الأجانب الذين قدموا من 181 دولة. أردفت : «الجو هنا ليبرالي، تعرفون أن المال ليس له وطن».
جعبتها لم تفرغ بعد: لدينا دائرة خاصة بالأقليات. نحن المدينة الوحيدة التي لها دائرة كهذه. عمدتنا إمرأة من الحزب المسيحي الديمقراطي (حزب المستشارة ميركل)، ورئيسة برلماننا إمرأة من حزب الخضر».
أشارت إلى بقايا أثرية من العهد الروماني، وقالت : «هنا أقام الملك شارل (فرانك) (القرن التاسع الميلادي)، وإليه تنتسب مدينتنا».
هل ترون برج الكنيسة؟ تأملنا البرج المعمَّر (600 سنة) فيما الصوت البهيج يواصل شدوه: كان الامبراطور ينصَّبُ هنا.
 
شارع الأكل المسرف
قرعت إجراس الكنيسة مؤذنة باكتمال الساعة الثامنة بالتوقيت المحلي. كان ذلك بمثابة المحفِّز لشهية الأكل عند الزوار ودليلتهم. وهي تقدمتنا باتجاه شارع «الأكل الكثير» أو «الإسراف في الأكل»، كذلك ترجم غرت اسم الشارع.
 أخرجت الدليلة ذات الهوى الإيطالي المتوسطي آخر ما في جعبتها من أعاجيب؛ اختارت مطعماً صاخباً، يديره جزائريون، يؤدون عملهم باستمتاع، ويقابلون زبائنهم بحميمية، لكأنهم أصدقاء.
كان المطعم مزدحماً. الألمان، حسب الدليلة، يحبون ارتياده لأنه مغاير في صخبه وحفاوة أصحابه.
 أكثرنا من الأكل. ومن عجب فإن مرافقينا الألمان، المنظمين جيداً، أكلوا حد التخمة، مايفيد بأن لكل ألماني يرتاد مطعماً عربياً في فرانكفورت من اسم شارعه نصيب!
Hide Mail