«ممثل شباب اليمن» و«صانع النصر والسلام» كوجهين لنكبة واحدة.. مصلوب بين ميداليتين

«ممثل شباب اليمن» و«صانع النصر والسلام» كوجهين لنكبة واحدة.. مصلوب بين ميداليتين - محمد العلائي

تتكون نكبة هذا الشاب من جزأين: دارت أحداث الأول في 97، والثاني في 2007. المؤكد أن الجزء الأول رتب، بطريقة ما، للجزء الثاني. لكن المفارقة هي أن كلا الجزءين وجهان لميدالية واحدة.
ولئن بدا في الصورة مشرقاً وأنيقاً، فهو يعتقد، في قرارة نفسه، أن مصيره انتهى به الى ذاك «الجريح الذي يقطر قلبه دماً»، «القابع في غياهب السجن المركزي»، بحسب توصيفين وردا في رسالة سنشير إليها تالياً.
كان في ال18، عندما بدأ عبدالرحمن يمارس وجوده في الحياة بشراهة.
 وعلاوة على كونه تاجراً يافعاً، كان عنصراً متوثباً في فرع المؤتمر الشعبي العام، الدائرة 11.
في 1997جرت انتخابات نيابية عاصفة. وبالطبع، لم يكن ترشح احمد علي عبدالله صالح في الدائرة 11 أمراً عادياً بالنسبة لأعضاء المؤتمر. لقد كان بمثابة المحفز الخارق، وباعث الحماس الذي لا يضاهىَ.
وإذ نال عبدالرحمن محمد عبدالوهاب الأكوع 30 عاماً قسطاً وافراً من ذاك الحماس (القاتل)، فقد ناء بثقل فكرة دعائية جذابة، لكنها لا تنفك تبدد ربيع عمره، رويداً، رويداً، (عمره آنذاك 20 عاماً تقريباً).
في حمأة الضجيج الانتخابي، لم يشأ عبدالرحمن أن يؤدي دور المتفرج السلبي. فهو ابتدر طرح فكرة غير معهودة: سك ميداليات نحاسية فاخرة تحمل في أحد وجهيها صورة «الاستاذ احمد علي عبدالله صالح»، وعلى الوجه الآخر الرمز الانتخابي للمؤتمر.
كانت الفكرة مغوية تماماً. فلم تكتف قيادة الفرع، بإبداء الاستحسان، بل أكثر من ذلك: شجعته للشروع في بلورة الفكرة الى حيز الوجود.
لا يفتقر عبدالرحمن إلى روح المغامرة الجامحة. فوق ذلك، هو يتمتع بقدر كافٍ من العواطف النقية. ومهما يكن، على المرء أن يحترس أكثر، سيما عندما يتصل الامر بنجل الرئيس. وأن تكون مؤتمرياً، وحده لا يكفي، كي تنجو من مزالق مقاربة «بيت الحكم».
حسبما أفاد شقيق عبدالرحمن فإن مكتب «الأستاذ احمد علي» كان على احاطة كاملة بالفكرة. ذلك أن الآلة الانتخابية للأستاذ لم تغفل موافاة مكتبه بأي جديد.
درجت العادة أنه عندما يعطى المرء إذناً من نجل الرئيس، لإنجاز عمل دعائي ضخم، فإنه لن يساوره أدنى شك في أن ما سينفقه لن يذهب سدى، هذا إن لم يدر عليه أموالاً طائلة.
هكذا كان يفكر الفتى المتطلع. وعلى أية حال ليس في الأمر مروءة، قدر ما أنه تصرف تنقصه الكياسة، كما يبدو.
حينما أعطي الضوء الأخصر، بدأ عبدالرحمن لتوه في تنفيذ العمل، بيد أنه جازف بتحمل كافة الأعباء المالية. لكأنه رحّل المطالبة بالتكاليف ريثما يكمل الإنجاز.
عامئذٍ اجتاز احمد علي الانتخابات بنجاح فائق، في الوقت الذي كان فيه عبدالرحمن يبذل ما بمقدوره لصك تلك العملة الدعائية الفريدة (سيكون مفعولها سارٍ حتى عقب الانتخابات). طبقاً لتآريخ الوثائق التي حصلت عليها «النداء»، فقد استغرق تنفيذ الميداليات النحاسية بضعة أشهر.
يقول شقيقه علي الأكوع: كان عبدالرحمن يستورد من الهند ملابس وسلعاً ذات أثمان زهيدة، وكان بحوزته في 97 رأسمال لا بأس به، الا أن فكرة الميداليات كانت كفيلة بتبديد كل ما جمع، فضلاً عن لجوئه الى القروض التي أثقلت كاهله بعد ذلك».
لطالما سافر عبدالرحمن الى الهند قبل 97 فهو رحل أزيد من 14 مرة، وحين سافر لطبع الميداليات لم يكن يعلم أنها رحلته الأخيرة إلى الهند.
في الصورة تبدو الهيئة الأخيرة التي خرجت بها الميدالية. ففي نموذج احمد علي سُطرت هذه الجملة: «ممثل شباب الجمهورية في عضوية مجلس النواب». وأضاف عبدالرحمن من قبيل تبجيل الأب نموذج ميدالية أخرى عليها صورة الرئيس، وهذه الجملة: «صانع النصر والسلام».
 لدى مغادرته بالنماذج منح ترخيصاً من قبل الجهات المختصة في مطار صنعاء. غير أن أمراً قاطعاً ومباغتاً أصدره طارق الرضي مدير مكتب احمد علي يمنع بشكل مطلق عبور الشحنة الأولى فور وصولها مطار صنعاء قادمة من مطار بومباي.
لأول وهلة، يبدو كما لو أن المنع ذاك لا يستحق أن يعار أدنى اهتمام، في الواقع هو بالنسبة لعبدالرحمن كارثة فادحة، أصابت تطلعاته في مقتل. إنها نكبة باهظة، كلفتها تقدر ب100 ألف دولار.
مطلع 1998، وحينما كان يبذل مساعٍ حثيثة للإفراج عن الشحنة مني بفشل ذريع. فبدل أن يفرج عنها، زج به في السجن على ذمة 5000 دولار. والمبلغ الأخير اقترضه ضمن مبالغ أخرى لاستيفاء تكاليف صك الميداليات (اللعينة).
بعد 6 أشهر أطلق سراحه بموجب حكم إعسار. وبعدها أكمل تسديد المبلغ تقسيطاً، وبدأ يستجمع ما تبقى لديه من قوة كي ينهض من كبوته.
لا بد أن عبدالرحمن يجيد خوض المغامرات، لكن على الدوام، حظه العاثر لا يسعفه لمواجهة مترتباتها جيداً.
لا شك، كانت الضربة أكبر من قدرته على التحمل، إذ أنها ألحقت الأدنىَ حتى بشقيقه علي.
«الى جانب ال5000 دولار، استدان 2 مليون ريال، ما جعلني أبيع قطعة أرض كي نخفف من وطأة الديون»، يقول علي ومسحة حزن طفيفة تكسو ملامحه.
ببساطة، كان علىَ عبدالرحمن أن يمتثل لمشيئة طارق الرضي، التي لا تخلو من كبرياء. نعم، كان لا مناص من ذلك (من يجرؤ على منازلة نجل الرئيس!؟). لكن ما حز في نفسه حقاً هو أنه شاهد عشرات الميداليات التي صكها في الهند يتداولها الناس في اكثر من مكان (كيف عبرت مطار صنعاء؟).
هل نسينا توضيح أن العدد الإجمالي للميداليات كان زهاء 150 الف قطعة، وفق رواية عبدالرحمن؟ وصلت الى مطار صنعاء شحنة تتكون من 6000 قطعة، والبقية كانت تنتظر الشحن من بومباي. غير أن أمر مدير مكتب «الاستاذ أحمد» حال دون نقلها رغم أن عبدالرحمن سدد أجور النقل.
في 16/7/2007 كتب عبدالرحمن من سجنه رسالة استغاثة، لكنها لم تصل الى «النداء» إلا مساء السبت الفائت.
الرسالة صيغت بلغة منمقة. وهي موجهة الى كلٍّ من : «فخامة الاخ رئيس الجمهورية صاحب القلب الكبير القائد الرمز المناضل، والاخ العزيز العقيد الركن احمد علي عبدالله صالح قائد الحرس الجمهوري قائد القوات الخاصة، والاخ القدير العقيد طارق احمد الرضي مدير مكتب قائد الحرس الجمهوري، والاستاذ القدير عبده بورجي السكرتير الصحفي الخاص لرئيس الجمهورية»، طبقاً لمستهل الرسالة(احمد علي أصبح عميد ركن مؤخراً).
وإلى كونها كتبت بنبرة هادئة وودودة، سطرت أيضاً بخط أنيق.
يقول: «لم يكن أمامي، وفي مثل وضعي، وما أمر به من معاناة طويلة، سوى رفع صرختي واستغاثتي، صرخة واستغاثة المتألم الجريح».
عندما فرغ من الديباجة المعتادة، بدأ يسرد حيثيات مأساته: «آمل التدخل العاجل منكم شخصياً لحل قضيتي بعد أن مسني الضر أنا وأسرتي، وإنقاذي من المأساة والنكبة الرهيبة والخسارة الفادحة، التي تكبدتها وتجرعتها في عملي وتجارتي وفي كل وأعزما أملك، والتي لحقت بي منذ 10 سنوات وتحديداً في الانتخابات البرلمانية عام 1997». يمضي عبدالرحمن في توصيف تراجيدي مكثف لحالته النفسية المعذبة.
ما هو حري بالتمعن، هو أن الرجل ما يزال يستطيع الاعتقاد أن ما قام به هو «دور وإسهام وطني بارز في إعداد وتصميم وتنفيذ وصناعة وطباعة وتمويل الميداليات»، حسبما قال في الرسالة ذاتها.
ليس من شك، فالشاب الأنيق يكابد إحساساً بالخيبة الكبرى. فهو صمم الميداليات بأحدث الوسائل الفنية الحديثة، وطبعت في أكبر المعامل الهندية لعدد 150 الف نسخة، وبتكلفة اجمالية توازي 100 الف دولار في ذلك الحين.
لقد كان أمر التوقيف المباشر من قبل مدير مكتب احمد علي اكثر من مجرد خذلان لعنصر مؤتمري مولع بالرئيس وأنجاله وحزبه. بالتأكيد كان من شأن مرور الشحنة التخفيف، ولو النزر اليسير من حجم الكارثة. لكن الراجح أن طارق الرضي لم يجشم نفسه عناء التفكير في مضرة المنع، الذي لم يكلفة سوى إجراء مكالمة مقتضبة الى حافظ معياد مدير جمرك مطار صنعاء يوفداك.
«وأنا ما قمت بذلك العمل، إلا وأنا أعرف يقيناً أن لي حقوقاً أدبية وعليّ واجبات، وبعد هذا كله، والى حد الآن لم ولن تصدق أو يصدقه عقل أو منطق ، صدور ذلك التوقيف الذي لم تحسب نتائجه ولا حجم الاضرار التي سوف ستترتب عليه» يواصل عبدالرحمن وأنت تقرأ رسالته لن نعثر على جملة شديدة اللهجة. بل انه فوق ذلك، يلتمس لهم الاعذار (لكأنه يخشى مزيداً من المرارات، رغم أنه خسر كل شيء).
يقول من الفقرة الأخيرة: «وأنا في سجني الذي لم أكن أتوقع الوصول إليه، لا أحمل أمداً المسؤولية، وخاصة الاخ طارق، الذي اكتفى بذلك الاجراء السالف ذكره فقط ونسي أو تناسى، ولا أعتب عليه لكثرة مشاغله».
وأطلق ما يشبه الزفرة المستغيثة الأخيرة: «أناشدكم واستحلفكم بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد أن تنظروا لقضيتي بعين الاعتبار، إن كان لي الحق، بعيداً عن التوسل والاستجداء، فأنا وحقي في أعناقكم».
الاحتمال الأكبر هو أن عبدالرحمن، الشاب العازب، حامل مؤهل الثانوية، يكتوي بنار الحسرة.
والحال أنه بعد ذاك الجزء من النكبة، توالت عليه الضربة تلو الاخرى. لقد أسست لما سيأتي من انكسارات.
في 8/7/2007 قضت المحكمة التجارية بسجنه على ذمة 75 الف دولار. الى الآن أمضى نحو شهرين. والجزء الأخير لا يرتبط بعلاقة مباشرة مع الجزء الأول، لكنه، على نحوٍ ما، من آثاره. فعندما باع عبدالرحمن كل أملاكه وأثقلته الديون، كانت كل محاولاته التجارية تبوء بالفشل. لقد أصبح محطم الروح.
في ذاك العام كان الرئيس عملة مستساغة ورائجة. وبالتالي لو قدر للميداليات أن تدلف الى صنعاء، لا ستطاع عبدالرحمن بيعها، واستعادة بعض ما أنفق، طالما فرع المؤتمر ومكتب الأستاذ احمد مصرين على خذلانه. وتقديمه ككبش فداء.
alalaiyMail