جثة طافية(3)

جثة طافية(3) - إلهام مانع

عاد الصمت الصارخ بالغثيان إلى نفسي من جديد. كأني رأيت تلك الجثة من جديد.
جثة طافية. منتفخة بلا حياة، تطفو على نهر، يجري وهو تائه.
جثة اليوم لا علاقة لها بدولة الحديد والنار في سوريا، لا، ذاك موضوع أعود إليه الأسبوع القادم. والعودة إليه ضرورية، خاصة ونحن نراها تحرم أحد أهم رموزها الليبرالية، النائب البرلماني السابق رياض سيف، الذي يعاني من سرطان البروستات، من حقه في السفر والعلاج.
 أبسط حقوق الإنسان، لا ينالها الرجل الذي باع الغالي والرخيص من أجل دعوة إلى التغيير التدريجي السلمي في وطنه. لم يبع نفسه ولم يبع وطنه، بل وهب نفسه ببساطة للوطن.
 يحب وطنه.
كم منا يحب الوطن مثله؟
ابنه أخفوه، كأنه فص ملح وذاب. وأمواله، وهو رجل الأعمال والصناعي المعروف، جردوه منها، أفلسوه، بالعربي الفصيح، كي يصمت. ولم يصمت. والسجن عرفوه عليه، وهو ما زال يقف على قدميه.
رجل صاحب مبدأ.
 كم منا يؤمن بمبدأ اليوم؟
 ومبدأه كلفه الغالي والرخيص. وهو لا يبالي، لأنه يعرف أن الوطن يستحق الغالي والرخيص.
وطن سيبادله الحب يوماً ما كما يحبه.
والآن يسعون إلى موته البطيء. يريدون قتل رياض سيف، قطرة قطرة، بطريقة التعذيب الصينية المعروفة: قطرة ماء، ثم أخرى، تتساقط على رأس شخص مقيد، وتتحول مع مرور الوقت إلى مطرقة تنهال عليه حتى يصاب بالجنون. أوه! ما أقسى الإنسان عندما يفقد إنسانيته!
"لن تسافر، رغم أننا نعرف أن لا علاج لمرضك هنا(!!) تبقى هنا حتى يمتد المرض إلى كل جسدك. وعندما يتمكن منك نتركك تسافر".
أليس هذا هو منطقهم؟
وعندما يكون منطق أجهزة الأمن في الدولة هكذا، يدرك القاصي والداني أنها دولة تعاني من أزمة، وأنها ضعيفة، هشة، ومهزوزة، لأنها تخاف من صوت رجل لا يخاف.
لا، جثة اليوم لا علاقة لها بسوريا.
بل باليمن.
لا بد من الانعطاف إليها، لأن الغثيان عاد يجتاحني من جديد.
عاد لسببين: موت الرجل الذي قال: "لا"، وحال طالباتنا وطلابنا من المبعوثين في المغرب.
الرجل الذي أعنيه هو سفيرنا لدي المقر الأوروبي للأمم المتحدة والاتحاد الفدرالي السويسري، ورئيس الوزراء اليمني السابق، الدكتور فرج بن غانم.
 مات.
خبر وفاته كان صدمة، أضافت هماً إلى قائمة الغم التي أطبقت على وطننا.
الرجل الذي قال: "لا".
قالها وهو رئيس للوزراء، في ظرف كان أغلب من حوله يحني رأسه لـ"صاحبـ" الدولة، يطأطئ، ويبتلع الاعتراض، إلا هو.
إلا هو.
 قالها، ثم انسحب بهدوء. وعندما فعل ذلك أصبح مثلاً يقتدى به.
"هناك خطوط حمراء لا يمكن لرجل الدولة الذي يحترم نفسه أن يتخطاها"، هكذا كان لسان حاله.
وهو كان يعرف أكثر من غيره أن الإصلاح الجذري لا يتحمل أنصاف الحلول.
وهو كان يعرف أكثر من غيره أن الإصلاح الذي كان ينشده ممكن التحقيق، لو أتيحت له فرصة بناء دولة المؤسسات.
إصلاح لا يصح معه وجود "صاحبٍ" للدولة، لأن الوطن لم يكن يوماً ملكاً لشخص. وهو كان يعرف ذلك أكثر من غيره. ولأنه أدرك أن فعل ذلك مستحيل، استقال.
 أول رئيس للوزراء يستقيل طوعاً واختيارا، ترك الجاه والسلطة والقوة، حباً في الوطن هو الآخر.
كم منا يحب الوطن كما فعل الدكتور فرج بن غانم؟
مات الرجل الذي قال: "لا".
وموته فِقدٌ لو كنتم تعرفون.
فأنا لم أعرف عربياً كنَّتْ له أوساط الخارجية السويسرية مثل ذلك القدر من الاحترام الذي أولوه به.
كلنا من معادن. ومعدنه كان نفيساً. والعالم الخارجي أدرك ذلك.
هذه الأولى. أصابتني في مقتل مطلع الأسبوع الماضي.
أما الثانية فتُخجل.
تُخجل كثيراً. والخجل يقع على من تسبب في قطع منح خمسين طالبة وطالباً يمنياً من طلاب الدراسات العليا في المغرب.
يقطعونها، ويتركون بناتنا وأبناءنا دون معاش. يتركونهم وأسرهم في الغربة بلا مال.
يقطعونها دون مسوغ قانوني، ثم يحملون طالباتنا وطلابنا مسؤولية قطع المنحة. وهم يدرون جيداً أن لا مسوغ قانوني لقرارهم. يعرفون ذلك جيداً، وأن منهم من ترفع اليمن رأسها بهم عالياً. هل أشير إلى الشاعرة ابتسام المتوكل، التي تحتفي بها المحافل العربية الثقافية، والتي كانت دوماً تحتل المرتبة الأولى في التحصيل الأكاديمي في كليتها؟ قطعوا عليها هي الأخرى منحتها.
وعندما اعترضت هي وزملاؤها، واعتصموا في السفارة، ونقلت قناة "الجزيرة" وقائع الاعتصام، تتعرض للتهديد من مبعوث الأمن في السفارة!
يهددها!
ويقول إنه "سيبكيها دماً".
ويقول إنه "سينغص عليها حياتها".
ويقول إنه "سيطردها من الجامعة".
كأنه لم يلحظ أن "الأمن" مهمته حفظ "الأمن" في أوطاننا، لا زرع الخوف وقتل الأمان في نفوس مواطنينا. كأنه لم يلحظ ذلك.
يا عيبة الأمن!
ثم نستغرب بعد ذلك من هجرة العقول لدينا؟
اعذروني على انعطافتي اليمنية. كانت ضرورية كي أبصق بالغثيان على الورق. كانت ضرورية لأننا كلنا في الهم وطن.
وطن هنا، ووطن هناك.
جثة تطفو، وأخرى تنتفخ.
والنهر يجري وهو غائب.
النهر يجري وهو تائه.
آه يا وطن!!
[email protected]