إلى الرجل الذي خذلته

إلى الرجل الذي خذلته - مزن مرشد*

منذ ست سنوات وطيف ذلك الرجل لا يفارقني، منذ ست سنوات وأنا أحاول أن اضحك على نفسي وأقول بأنني لا أريد الكتابة عنه، ولكن الحقيقة أنني كنت أجبن من أن أواجه نفسي واعترف بأنني خذلته.
في الشهر الخامس من عام ألفين، أعددت تحقيقا صحفيا عن سجن عدرا المركزي. وقتها لم تكن غايتي قصص السجناء أو اكتشاف المظلومين بينهم، وإنما استمعت لبعض القصص في جملة المعلومات التي أريد جمعها، وعندها اختار لي مدير السجن آنذاك بعض القصص الغريبة ومن بينهم منذر.
رجل في الأربعين من عمره، أبيض الشعر، طويل القامة، يبدو عليه الرقي والاحترام، تفاجأت بأن يكون قاتلا!
 أمضى الرجل اثنين وعشرين عاما في السجن، أي منذ أن كان عمره ثمانية عشر عاما.
منذر قتل بالرصاص ثلاثة أشقاء وأصاب أباهم بجروح، القصة تصل إلى درجة الفاجعة.
حُكم ابن الثمانية عشر عاما بالإعدام وهو يحمل الشهادة الابتدائية فقط، وكان يعمل وقتها بتصليح السيارات (ميكانيكي وكهرباء). أما ما دعاه لقتل ثلاثة فكان مشاجرة حادة بين أهله وبين أصحاب المنزل الذي يستأجرونه بسبب حكم بالإخلاء تنفذه الشرطة. وصلت المشاجرة إلى حد انتهاك حرمات بيتهم في بيئة محافظة جدا في أحد أحياء دمشق!
لا أريد الدخول في تفاصيل القضية وملابساتها. ما يهمني أن هذا الشاب استطاع خلال سنوات سجنه أن يحصل على الشهادة الإعدادية ثم الثانوية وأنهى دراسته الجامعية من قسم التاريخ. وعندما التقيته كان يجهز لنيل الدكتوراه في التاريخ المعاصر إلى جانب دراسته للقانون كمطالعة كي يستطيع أن يعرف حقوقه وكيف يدافع عن نفسه.
أحزنني حديثه عندما أكد لي أنه لم يدرس رغبة بالشهادة على الإطلاق، فالعلم كان يستطيع أن يحصل عليه من القراءة في السجن فقط، ولكن تقدمه للامتحانات كان لهدف وحيد، وهو أن يستطيع النظر من خلال شباك السيارة التي ستنقله للامتحان على شوارع دمشق، ليرى التغيرات التي تطرأ على المدينة بغيابه، أن يستطيع من خلال تلك النافذة الصغيرة أن ينظر إلى وجوه الناس متأملا أن يرى أي وجه مألوف يلقي عليه التحية.
كان ينظر من تلك النافذة ليعرف أنه ما يزال على قيد الحياة.
مدير السجن، ومدير ثانوية السجن، المرشدة الاجتماعية هيام، السجناء وكل من عرف منذر، حمل له الود والمحبة. جميعهم أكدوا بأن هذا الرجل الذي لم يعرف الحياة خارج هذه الجدران كرجل بالغ، عاقل، يستحق بأن يُعطى الفرصة ليعيش حياة حرة ويثبت للجميع بأنه يستحق الحرية، أما العقاب، فالاثنين والعشرين عاما التي قضاها خلف القضبان، وإدراكه لفداحة الخطأ الذي ارتكبه، كافية لتكون عقابا عادلا عما اقترف.
قبل أن أغادر السجن قال لي: "كنت أتمنى لو أنهم أعدموني بعد يوم من الحكم، لكان ذلك أرحم ألف مرة من انتظار الإعدام يوميا على مدى عقدين من الزمن".
بعد تلك الحادثة بعدة أشهر بعث لي منذر من سجنه برسالة يحيني فيها ويرى أن اسمي – مزن - قريب من كلمة maison الفرنسية وتعني المنزل، هذا المنزل الذي يحلم به طوال اثنين وعشرين عاما والذي كان السبب في قتله لثلاثة أشقاء، ومع الرسالة علاقة مفاتيح من صنعه كتب عليها: "كل شيء بالمال وضاح.... والحق مثل الشموع يذوبـ".
قدَّم منذر أكثر من التماس نظرا للظروف المحيطة بالقضية، واستأنف أكثر من مرة إلا أن قوة الخصم جعلت كل محاولاته تذهب أدراج الرياح ليصلني خبر إعدامه منذ سنتين.
حكم الإعدام هذا الحكم الجائر الذي يعالج الظلم بظلم أكبر منه، ليصبح القاتل ضحية والمقتول سبباً يدعو للحقد. فارق بسيط بين الإعدام والثأر، لتعالج الجريمة بجريمة أبشع.
أُعدم منذر، في سجنه، أعدم ذلك الرجل الذي لم يعرف الحياة أبدا، أُعدم بعد أن وعدته في حينها بأنني سأعمل على مناهضة عقوبة الإعدام من خلال عملي الصحفي والمدني والمجتمعي وبكل ما أستطيع، لكنني خذلته، أخذتني الدنيا، وخذلته.
 
* كاتبة وصحفية من سوريا
[email protected]