جثة طافية!(1)

كانت الجثة طافية على سطح نهر الآرا.
جثة شاب أحب أن يسبح في النهر السويسري المراوغ، فأبتلعه.
صدمني المشهد.
ميت يطفو على نهر، كنت أرغب في التنزه على ضفته بعد يوم واحد من عودتي من زيارة بحث ميدانية أخذتني إلى سوريا.
من بين كل المشاهد التي كنت أتوقعها، لم أتصور أني سأرى غريقاً يطفو، هكذا، كأنه خرج من قمقم للعفاريت. أو أني سأتابع، واجمة، سيارات الشرطة والإسعاف وهي تتلاحق في الشارع، ورجلي شرطة يخلعان ملابسهما ويقفزان في الماء ليخرجاه. ثلاث سيارات شرطة وسيارة إسعاف، وكل أفراد الطاقم مهتمون بمصير رجل مات!
مات وشبع موت. وهم مهتمون بموته!
تابعت ذلك صامتة. لم أنطق بكلمة "آه". لم انبس ببنت شفة. صامتة وعيناي تتابعان مشهداً بدا لي سريالياً.
والغريب أني شعرت بالجثة المنتفخة متسقة تماما مع مزاجي.
عكر، عكر، عكر.
لماذا؟ تسألونني؟
حسناً. ربما لأني لازلت أحمل في نفسي بصمات زيارتي إلى سوريا.
أخذتني إليها دراستي التي أعدها عن المرأة العربية والدولة بين الشريعة والعلمانية، دراسة العمر إذا صح لي تسميتها كذلك. هناك نوع من الدراسات ما إن تبدأ فيه حتى يستحوذ عليك، وهذه واحدة منها. استحوذتْ علي حتى كدت أن أتنفسها.
 بدأتها غير واعية، وكلما تعمقت فيها أصبحت مقتنعة أكثر أن مشكلة المواطنة في بلدان العالم العربي تبدأ من العائلة، وأن العلاقات غير المتوازنة ضمن إطارها، بين الرجل والمرأة، والبالغ والطفل، تعكس إلى حد كبير واقع الدولة لدينا، دولة أبوية، على قمتها رئيس أب، ذلك المستبد الظالم.
التقيت في تلك الزيارة بشخصيات عديدة متنوعة وثرية. تأسرك بحماسها. تخُجلك بتواضعها.
شخصيات من نوعية حنان نجمة، رياض الترك، سهير الأتاسي، دعد موسى، رزان زيتونة، خالد خليفة، ناهد بدوية، سوسن زقزق، ندى العلي، سمر يزبك، الراهبة ماري كلود نداف، أسماء كفتارو، بسام القاضي، على العبدالله، رياض السيف، ياسين الحاج صالح، والوزيرة منى غانم... وغيرهم...
كما في اليمن، كما في السعودية وتونس، كما في كل بلد عربي، تزخر أوطاننا بمثل هذه الشخصيات. كل يعمل في مجاله، وكل له اتجاهه الفكري والسياسي والديني أو اللا ديني، لكنهم يعملون، في إطار منظمات المجتمع المدني، من داخل السلطة، أو من خارجها، في المنظمات النسائية، أو كمثقفين، ومع اختلاف اتجاهاتهم يبدو أنهم متفقون على أمر واحد: على الوطن.
رغم ذلك، مزاجي عكر.
عكر. عكر.
تسألونني لماذا من جديد؟
لأن القلة، مهما كان جهدها، لا تكفي لإصلاح الوطن. لا تكفي مادامت الدولة تبدو تائهة. والدولة العربية تائهة اليوم. كانت دوماً تائهة، لكن توهانها يبدو سُكراً هذه الأيام. ولولا الحياء لقلت إنها تحشش صباح مساء، ثم تكمل عليها في الفجر بجرعة أفيون. تائهة لا هم لنخبتها سوى البقاء، في كراسيها.
"أنا ومن بعدي الطوفان"، أنظروا حولكم وقدموا لي استثناءً، لن تجدوا إلاّ قلة لا تذكر.
أنظروا من حولكم وقدموا لي دولة عربية واحدة مدنية.
مدنية فعلاً.
بمؤسساتها أو بقوانينها.
كلها دولة القبيلة، أو دولة المذهب، أو دولة الأقلية، أو دولة الطوائف، أو دولة الحديد والنار.
والطريق لا زال أمامك طويلاً شاقاً أيها العربي النبيل.
وكما الدولة، يبدو الشارع مخدراً هو الآخر. يترنح المسكين ضائعاً.
يلهث. ويجري، ثم يلهث وأنفاسه منقطعة، أما رقبته فمعلقة بحبل سميك يشده إلى السماء، اسمه ظاهرة التأسلم الشعبي.
في كل مكان أذهب إليه أجد هذه الظاهرة بكل أشكالها غير العقلانية، وخطابها المهووس بجسد المرأة وبتسفيه الآخر. كأنها لعنة أصابت مجتمعاتنا، وعقولنا من قبلها.
وسوريا ليست استثناءً. سوريا ليست استثناءً.
 لكنها، كما مصر، زادت على التأسلم الشعبي بانكفاء أقليتها المسيحية على ذاتها، وهروبها إلى الدين هي الأخرى.
 والغريب أني شعرت بصدمة لذلك. نعم. الغريب أني شعرت بصدمة لذلك.
صدمة تشبه إلى حد كبير تلك اللحظة من الذهول الصامت التي أطبقت علي عندما اصطدمت عيناي بالجثة الطافية على نهر الآرا السويسري.
جثة طافية،
منتفخة بلا حياة.
تطفو على نهر،
يجري وهو تائه.
وللحديث بقية!
[email protected]