فاروق.. عالقاً في جوانتانامو!

- صنعاء - «الندا»: -  تعز - منى صفوان
أكمل فاروق الكوري الثانوية العامة في تعز عام 2001. ونظراً لذكائه فما من شك في أنه كان سينهي دراسته الجامعية بتفوق، لكن الشاب الرياضي المتدين بعمق، إختار مساراً مختلفاً عشية أحداث ال11 من سبتمبر، قاده إلى «جامعة جوانتانامو» حيث يمضي عامه السادس في قفص يجسد الاستشراق الاميركي في أجلى صوره.
قبل 6 سنوات كانت اليمن تحتل المرتبة الثالثة من حيث جنسيات المعتقلين في قاعدة جوانتانامو، بعد افغانستان والسعودية. لكنها الآن تتصدر القائمة بعد إطلاق عشرات السعوديين والأفغان. احتلال الصدارة هذه المرة، عوضاً عن إقامات مزمنة في ذيول قوائم أخرى، كان مؤخراً موضع توبيخ جهات عديدة، أبرزها منظمة «هود» ولجنة الدفاع الاميركية عن المعتقلين اليمنيين التي عقدت مؤتمراً صحفياً في صنعاء الأحد بعد زيارة عمل إلى اليمن، وانتقدت ضمنياً الحكومة اليمنية التي ترفض تسلم مجموعة من معتقليها، قررت الإدارة الأمريكية إطلاقهم مؤخراً. ولم يبادر أي مسؤول يمني إلى الرد على هذه الانتقادات، ومن الواضح أن الحكومة اليمنية عازمة على التشبث بالصدارة، حتى وإن كانت في جوانتانامو.
يحتل المعتقلون اليمنيون أكثر من 100 قفصاً في القاعدة الامريكية التي باتت واحدة من أهم معالم الحرب على الإرهاب. في أحد هذه الأقفاص يمضي فاروق عامه السادس، منتظراً لحظة الانعتاق. وطبق محاميه الامريكية الذي التقى أُسرته الخميس الماضي في مدينة تعز، فإن فاروق بدا متماسكاً عندما زاره آخر مرة قبل عدة أشهر.
يحمل فاروق، المولود عام 1983 في الكويرة، الشمايتين، تعز، بطاقة شخصية صادرة برقم 3026254 من مصلحة الأحوال المدنية في مدينة تعز عام 2000. وهو أحد 7يمنيين وافقت الإدارة الأميركية على تسليمهم لليمن قبل عدة أشهر. وقبل قرابة شهر استنكرت المحامية الامريكية مارثا راينر إصرار الحكومة الامريكية على عدم إطلاق سراح هؤلاء الأبرياء. وفي مقال نشره موقع «هود» قبل 3 أسابيع كتبت: كيف يمكن لسجَّان أن يستمر في احتجاز شاب في ظل الظروف الصعبة لمعتقل جوانتانامو؟، قبل أن تضيف سؤالاً حارقاً آخر: «كيف يمكن للحكومة اليمنية أن تجلس ولا تحرك ساكناً (فيما) أحد مواطنيها محتجز دون أي مبرر في سجن أجنبي؟".
لم تكن تملك إجابة لسؤالها مطلع الشهر الجاري، وقد ختمت مقالها بالتعبير عن تطلعها، هي وزملائها في لجنة الدفاع الاميركية، إلى لقاء مسؤولين حكوميين يمنيين خلال زيارتهم إلى اليمن نهاية الشهر نفسه، والعمل معهم من أجل حل مشكلة المعتقلين العالقين في جوانتانامو.
الأحد الماضي غادر المحامون الاميركيون صنعاء بعد زيارة قصيرة، حاملين خيبة أمل في المسؤولين الحكوميين والأمنيين الذين رفضوا مقابلتهم. وقد أشادت مارثا وزملاؤها في مؤتمر صحفي الأحد الماضي بوزيري الخارجية وحقوق الإنسان ومنظمة «هود»، لكنهم لم يخفوا امتعاضهم من مكتب رئاسة الجمهورية والمسؤولين الأمنيين. وشككت مارثا بمصداقية تصريحات كبار المسؤولين بشأن حرصهم على تحرير المعتقلين اليمنيين في جوانتانامو، وقالت: إذا أراد الرئيس صالح أن يعزز كلماته بأفعال فعليه أن يلتقي أسر المعتقلين، ويبحث معهم سبل الافراج عن (أبنائهم)، وأن يعرف حاجاتهم، إذا كان يريد بالفعل إعادتهم».
وكانت مارثا أشارت إلى تصريحات للرئيس بوش تفيد بأن اليمن إحدى الدول التي ترفض استلام معتقليها. وعلى الأرجح فإن اسر المعتقلين تدرك ذلك جيداً، إذ أنها لم تلمس مطلقاً أية بوادر تنم عن حرص الحكومة اليمنية على إعادة أبنائها.
وحينما زارت «النداء» قبل أسبوعين منزل أسرة فاروق في تعز، كان والدا فاروق وأخوته يعولون على جهود منظمة هود والمحامين الأميركيين.
وكان الشك في نوايا الحكومة حاضراً، فقد تلقى والد فاروق معلومات من صنعاء الشهر الماضي، تفيد بأن 7 معتقلين، بينهم فاروق جرى تسليمهم إلى صنعاء. لم تتأكد المعلومات وقتها، ومن الواضح الآن أنها ليست صحيحة، لكن الحكومة اليمنية لم تكلف نفسها عناء تقديم توضيحات لأسر المعتقلين.
 
***
 
فاروق على الكوري غادر مبكراً ومستعجلاً كأن عليه أن يلقى قدره الآن وهو مازال في سن صغيرة، مقارنة بالتجربة الرهيبة التي عليه خوضها، إنه الابن البكر" لهدى" التي حرمت حتى من وداعه، قبل أن تحرم من رؤيته منذ أكثر من ست سنوات.
فاروق الذي سافر إلى باكستان بعد إنهائه الثانوية مباشرة لإكمال دراسة علوم القرآن، كان عمره وقتها 19 عاماً، وهو الخريج من أحد المعاهد الدينية لتعليم القرآن، غير أنه لم يعد إلى اليوم.
ترك يومها رسالة أخيرة كوداع، كان قد رتب لكل شيء مع صديقيه، جاهز للسفر الذي سبق وأن رفضه أبوه وأمه ونصحوه بالعدول عنه، لكن يبدو ان الولد العنيد، الذي يتحدث عنه والداه اليوم بشجن وخوف عليه، يخالطهما شوق إليه، سافر ليخوض دون أن يختار تجربة مرة، سيزج إليها زجاً كغيره ممن لايشكلون إلا رقماً تجري المفاوضات حوله.
... «فاروق لم يخبرني أنه مسافر لأنه كان يدرك أننا لن نوافق على سفره إلى هناك للدراسة، وكنت أقول له أن يكمل دراسته هنا في اليمن, ولكنه سافر بعد إنهاء امتحان الثانوية العامة مباشرة في يوليو 2001..» هذا ما قاله "علي الكوري" وهو يتحدث عن سفر إبنه المفاجئ والسريع والذي طال كثيراً, دون أن ينقطع الأمل بعودته.
 أما والدته فقد كان هول الصدمة قوياً عليها، وهي التي لم تودعه قبل سفره، فقد سافر خلسة ليترك لها فقط رسالة وداع، هذا يدل على أن «فاروق» المصر على سفره كان أقوى من شاب عمره 19عاما وقتها، حتى لا ينصاع لرفض والده وخوف أمه!
و برغم ذلك متأكدة "هدى" أنه سيعود لها قريبا، هي تقول ذلك بإحساس الأم، غير أن منظمة مختصة بحقوق الإنسان قالت لوالد فاروق قبل أشهر ما قد يكون مؤكداً لإحساسها.
فقد اتصلت هود " بعلي الكوري" وقالت له إن فاروق سيجري تسليمه مع رفاق له للسلطات في اليمن وربما قد جرى تسليمه مؤخراً، الولد الذي صار أقرب جغرافيا، هو في هذه الحالة يزيد بعداً، لأن ما من أحد يتحدث عن ذلك من السلطات الرسمية، على الأقل عندما كان في جوانتنامو كانت أخباره واتصالاته ورسائله لا تنقطع، أما الآن فلا خبر عنه.
فاروق الذي اتجه إلى باكستان برفقة صديقين "محمد العديني و فياض.."اللذين لا يعلم عنهم أحد شيئاً اليوم، كان يظن أنهم سيرجعون بعد أشهر من استكمال إجراءات التنسيق للدراسة كما تقول أخته "غادة": "وخلال هذه الفترة كان يتصل لنا دائما و يطمننا عليه"، "بقي في باكستان ثلاثة أشهر فقط وفجأة انقطعت اتصالاته، وبعدها عرفنا أنه في جوانتنامو"، هكذا قالت "هدى " التي لم يزل يعز عليها أنها لم تودع فاروق، وتصمت فجأة وبدا هول الصدمة ظاهراً عليها كأنها سمعت الخبر للتو، وبدت كمن تغالب الدموع التي حلفت ان لا تذرفها على ولد غائب، وحين يعود ستبكي وهي تستقبله.
 الخبر وصلهم عن طريق " فاروق" نفسه برسالة بعثها بعد عيد الأضحى، تحديدا في 28 فبراير 2002، و بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله، وحسب ما أفاد به والد فاروق، انه ربما يكون قد اعتقل قبل هذا التاريخ بثلاثة أشهر، خاصة أن هناك من أكد له ذلك.
 إن والده الذي كان يرفض سفره، يبدو متماسكا وشاحذاً كل هممه في الوقت الراهن لمعرفة أي أخبار تدله على ولده الذي انقطعت أخباره مؤخراً فقد كانت آخر رسالة استلمها من ولده في مارس الماضي وقال له فيها: إنه بخير وان لادعي للقلق عليه، وإنه في حال طيبة، وإن هذا هو قضاء الله وقدره، وكان هذا دليلاً على انه مازال هناك في جوانتنامو، بعد ذلك انقطعت الرسائل ووصلت أخبار تقول إنه جرى تسليمه مؤخراً للسلطات في اليمن، الآن "علي" يحركه سؤال حول ما إن كان ولده مازال هناك أو إنه قد أصبح هنا!
 إنه يصحو كل يوم صباحاً يقود سيارته الأجرة في شوارع تعز الصغيرة ليس كمن يقوم بعمله، وإنما كمن يبحث عن ولده، وهو يدرك مسبقا انه ليس هنا.
 أما أمه، التي تعود للحديث لنا وتخرج عن صمتها العارض، تتذكر صغيرها الذي تمر عليه السنوات وهو بعيد، عنها، تقول: فاروق الذي أكمل دراسته الثانوية في معهد الفرقان في تعز التي جاء إليها وعمره أربعة أشهر، كان طالبا ذكياً جداً ويحب لعب الكرة في حارته الهادئة في وادي القاضي, ولد في قريته ببني شيبة (قرية الكويرة) و كان هادئاً جداً».
إنه يخوض اليوم تجربة رهيبة، الخوف يملأ قلب أمه عليه، لكنها تطمئن نفسها بأنه سيعود، هو لم يقطع أخباره عن أمه، كانت تصلهم رسائله التي تحتفظ بها الأسرة ولكن منذ فترة انقطعت هذه الرسائل.
 "حمزة، ومحمد، وحذيفة" أخوة فاروق الشباب هم أصغر منه، ولكنهم أقوياء بما يكفي لأن يكونوا مع والدهم في رحلة محاولة لإدراك أثر أخيهم الكبير.
 لاشيء يمكنه أن يجعلك تشك للحظة وأنت تقابل هذه الاسرة أن لها ابناً في سجون جوانتنامو، تلك السجون التي تسمع عنها كل ما هو سيء ومهين، و شعور غريب يلف المكان بأن مكان فاروق المعتاد و الهادئ الذي اعتاد الجلوس فيه للقراءة سيعود إليه يوما وأنه غادره للتو، وكأن هذا المكان لايزال محتفظا بحرارته، ربما هي قوة الإيمان التي لايجد غيرها " علي وهدى " للتمسك بأمل عودة بكرهما وأول فرحتهما.
 الأم الحزينة تكبت حزنها وتمنع دموعها, أما الأب، كما يظهر لنا، لايكل حماسه وهو يتحدث عن ولده المعتقل الذي قرأ اسمه في صفحات"النداء" قبل شهر, في خبر يقول إنه ورفاقاً له سيجري تسليمهم لليمن. وهذا ما يحرك قضية فاروق وغيره لمواصلة البحث والسؤال عن الذين كانوا معتقلين بتهم أكبر منهم ليصبحوا مفقودين ولا أحد يعلم عنهم شيئا!
 كلمة "إن شاء الله" لاتفارق علي وهو يتحدث عن عودة إبنه، خاصة وأنه في الآونه الأخيرة بدأت تصله أخبار تضيء أمامه شمعة الأمل.
 عندما كان يتصل من جوانتنامو كان يقول لهم: الأمور تمام، لم يشكُ من شيئ، كانت مكالماته قصيرة ومتباعدة كما تقول شقيقتاه " غادة وكوثر" اللتان كان يقول لهما إنه سيكون بخير. دعاؤهم له لم ينقطع وهذا هو الأمل الذي يعيش عليه.