هاجس التجديد عن عبدالرحمن الغابري.. معرضه الاخير.. رؤية شعرية ببلاغة الصورة

هاجس التجديد عن عبدالرحمن الغابري..معرضه الاخير.. رؤية شعرية ببلاغة الصورة

محمد عمر بحاح
المعرض الاخير للفنان عبدالرحمن الغابري في «بيت الثقافة» بصنعاء، اكثر عمقاً من مجرد معرض مصور فوتغرافي محترف. إنه رؤية بصرية لفنان هاجسه التجديد، وتقديم مفهوم عن الصورة الفوتغرافية، لا تقل روعة عن الأعمال الفنية للوحات الفنانين التشكيليين، بل وتتفوق عليها في بعض الأحيان.
في هذا المعرض، يراودك إحساس بأن الغابري، عبر صوره وأسلوبه في فن التصوير الشمسي يقدم رؤية شعرية، ويكتب بعينه الحساسة قصيدة ببلاغة الصورة، أو صورة ببلاغة الشعر. ويذهب بلوحاته المصورة عن الطبيعة اليمنية إلى أبعد من جمال الطبيعة ذاتها، فيمنح المشاهد شعوراً عميقاً ليس فقط باخضرارها الاخاذ في الغابات والاشجار العالية والمحميات الطبيعية، بل بطزاجتها، وتوهجها النادر، وكأنه ينصت إلى ايقاع سحري ولا يشاهده فقط !.
يتفوق الغابري في هذا المعرض، ليس على ذاته، بل على عين الكاميرا، فيبلغ بصورته درجة اسطورية وبلاغية مدهشة. حيث لا يكتفي بالسطح الساكن، أو التقاط صورة للمكان، بل يضع معرفته الفنية الشخصية بالتصوير الفوتغرافي، في مواجهة المكان، لكي يستخرج قيمة فنية عالية الإتقان، لا مجرد صورة تطابق الواقع، بل رؤية بصرية تنطوي على فكرة ومفهوم مختلفين.
وبقدر ما تنطوي صوره على بعدٍ فني، فإن البعد الثقافي يحضر فيها كأفق معرفي ينهض من جماع المناظر التي يحتويها المعرض، والتي التقطتها عدسة الغابري في مختلف أنحاء اليمن. فيقدم مرآة عميقة للتنوع البيئي الهائل للطبيعة والحياة اليمنية برؤية فنية أخّاذة، يسعى من خلالها أن يحث الآخرين على الإلتفات إلى هذه الكنوز الثمينة قبل أن يبتلعها الزحف العمراني، والتلوث البيئي، وغول الإهمال وندرة الوعي، وهي عوامل تغتال اجمل ما في الطبيعة، وتقتل اجمل ما في الإنسان.
صور الفنان عبدالرحمن الغابري، أشبه بالسحر، إن لم تكن السحر بعينه. فيمزج في أعماله بين الواقع والخيال والاسطورة في ذات الصورة. فيقدم لنا الصورة لا كما نعهدها، ولا المكان كما نعرفه، ولا الواقع كما نراه، بل رؤية مغايرة إلى درجة تجعلنا نقول إن كان يقدم صورة عن مكان وزمان آخرين لانعرفهما؟! ومن هنا يمكننا إدراك انشغال الغابري العميق على فنه، واجتهاده في أن يعثر في كل صورة يلتقطها أو يبدعها على جمالية متفجرة، ويصل إلى عمقها، ويحيط بأبعادها الكامنة من أضواء، وظلال، وألوان، وكثافة تعبير، وتماه مع الواقع، وخيلاء، ثم يصيغ من كل ذلك، بصنعة فنية ومزاج متأن وتقنية عالية، إيقاعه السحري الخاص الذي نحسه أو نكاد نسمعه في كل صورة من صوره.
وتتساءل أمام كل صورة منها: أين يكمن جمالها؟ في أبعادها، أم في ألوانها، أم في زاوية اختيار المصور، لكنك في الاخير تصل إلى أن عين الفنان الغابري، وحساسيته الفنية العالية، هي الأصل في صنع هذه البلاغة السحرية، وتشكيل هذا الجمال المترف.. وهي عين علي قدر هائل من الحساسية، سبق لها أن تدربت طويلاً، وتجول بها الغابري، وارتاد بها الأبعاد والآفاق ليقدم لنا صورة بلغة مغايرة، تنأى عن المباشرة، وتقدم الصورة الفوتغرافية بشعرية جديدة، وهو من قلة في اليمن والوطن العربي يحملون هاجس تجديد الفن الفوتوغرافي، ولا يمكن قراءة معرضه الاخير إلا ضمن هذا الإطار.
يقول لنا الغابري في معرضه الأخير، إنه شاعر، وليس مجرد مصور فوتوغرافي محترف، وإن روح الفنان فيه، روحه المبدعة، تستطيع ان تنجز رؤية بصرية لا تقل روعة عن الشعر، وإن بلاغة الصورة الشمسية لا تقل روعة وجمالية عن بلاغة اللغة، ومفرداتها وأبعادها الفنية، وإنه كفنان مبدع قادر على ان يرتقي بعين الكاميرا، وبالصورة عوالم تنأى عن المباشرة، وتقوم على التجديد الفني، للتصوير الشمسي بروح جديدة، مثلهه مثل الشعر والتشكيل وبقية الفنون.