فلسطين وتآكل الحلم - عبدالباري طاهر
كان المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد نافذ البصيرة عندما ابتعد عن منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة "أبو عمار" وراح ينتقد اتفاقات “أوسلو” و"مدريد" وما تناسل منهما.
فأوسلو ومدريد شأنهما شأن “كامب ديفيد” تمثل الخط الراجع في القضية العربية والفلسطينية.
خطيئة هذه الاتفاقيات الكبرى أنها قد اعتمدت على وعود أكثر من اعتمادها على مرجعيات حقيقية. كما أنها قد استندت إلى التجزئة لقضية مصيرية. وأجَّلت الحل الشامل و العادل إلى مرحلة ثالثة، في حين أن “شيلوك” الإسرائيلي لم يلتزم أو ينفذ المرحلة الأولى من الاتفاق.
فضحت الانتخابات الفلسطينية مطلع هذا العام أشياء كثيرة منها صدق نوايا الإدارة الأمريكية في دمقرطة الشرق الأوسط. فحين فازت حماس في انتخابات حرة ونزيهة، أقرت بها أمريكا و أوروبا فإنها راحت تضع العصي في دواليب الحركة وتدمغها بالإرهاب. وتفرض على الشعب الفلسطيني حصارا قاتلا يمنع المرتبات والعلاج و لقمة الخبز.
أرغم الجبروت الأمريكي العالم على الالتزام "الحرفي" بحصار الفلسطينيين، كانت الأنظمة العربية في طليعة الملتزمين بالحصار المميت، وترك لإسرائيل حرية قتل الفلسطينيين عبر الاجتياحات المتكررة والاغتيالات والحرب المستدامة. وقامت مصر بضغوط مشهودة ضد الفلسطينيين للقبول بالإملاءات الإسرائيلية والأمريكية.
والأخطر إن قيادة فتح “أبو مازن”، التي قبلت راغمة بالنتيجة،راحت ومنذ اليوم الأول ترفض حكومة وحدة وطنية. ووفرت قيادة حماس، بشعاراتها الغامضة، وعدم التمييز الدقيق بين ما هو كفاح مسلح وحق ومشروع، وبين أعمال إرهابية تستهدف المدنيين أو غير مدروسة وعشوائية، فاختلط كل شيء بكل شيء.
تمر القضية الفلسطينية بأخطر المراحل فالتصارع الداخلي يتمحور من حول السلطة فحماس تريد الاحتفاظ بالوزارت السيادية غير مدركة خطورة الحصار، ومعاناة الشعب التي يتعرض لحرب إبادة و تطهير عرقي. و اقتلاع من جذوره وهويته وترابه الوطني، فالعمى الإيديولوجي و اعتقاد الصواب السياسي الإيماني يحجب عنها حقيقية الرؤية في عذاب الناس و معاناتهم. وتتوكأ قيادة فتح على شرعية منظمة التحرير وربما استفادت حد الإستقواء بالضغط الخارجي ضد حكومة حماس. وهي تريد الاستحواذ على المناصب السيادية لا لفك الحصار فحسب، على أهمية ذلك، وإنما أيضا لتوظيف هذا الاستحواذ في فرض قراءتها للسلام مع إسرائيل ومواصلة تقديم التنازلات شبه المجانية، مقابل وعود سلام لا تغني و لاتسمن!
التنازع على "السلطة" في بلد محاصر ويتعرض شعبه للتقتيل وأرضه للتمزيق وطمس الهوية أمر بالغ الضرر والخطورة. ويسهم الوقف العربي الممالئ للسلطة والموقف الأمريكي والأوربي المنحاز لإسرائيل. والمعادي للاماني الوطنية الفلسطينية، تسهم كلها في ازدياد نيران الفتنة اشتعالا في القيادات الفلسطينية.
ولا شك إن الأوهام التي يلوح بها “ أولمرت” حول “السلام” وإظهار المرونة لاهداف لها غير دفع الصراع الفلسطيني الفلسطيني إلى مداه الأبعد؛ فالدولة الإسرائيلية، التي تغتال الحياة في فلسطين، وتشرد أبناء الشعب الفلسطيني، وتقيم جدار الفصل العنصري، لا يمكن أن تقبل بالتراجع إلى حدود الخامس من حزيران او عودة اللاجئين الفلسطينيين، أو قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة.
إن خطورة الاقتتال الداخلي أضحت مؤشراتها واضحة فهذا الانفلات الأمني الواصل حد قتل الأطفال، والاختطافات المتكررة و المواجهات المسلحة بين الفينة و الأخرى ولغة الخطاب الجانحة نحو التخوين والتكفير، كلها مؤشرات دالة و فاجعة و المستفيد الوحيد “ العدو الإسرائيلي “ الذي يَعِد بالفتات كثمن لاقتتال الفلسطيني مع أخيه ونفسه.
والمأزق أن الأطراف العاقلة، وصوت العقل يضعف باضطراد مع تزايد وارتفاع صوت الفتنة و توزيع التهم. والاحتكام إلى القوة لحل قضايا خلافية لا مكان للقوة فيها. وعندما يتمحور الخلاف من حول المغانم واقتسام سلطة موهومة مغلولة بالاحتلال. و مؤودة بالحصار فإن المنطق يضيع، ويستطع الانتهازيون والمتسلقون ان يقفزوا إلى الواجهة مغيبين القوى الأكثر اعتدالا و عقلانية.
كان انتصار حماس في الإنتخابات النيابية بمثابة عقاب لقيادة حركة فتح التي غرقت في الفساد، وانساقت وراء الأوهام التي اشترك في تسويقها الاحتلال و الحليف الأمريكي و بعض الأنظمة العربية. ولكن حماس المنتصرة لم تقرأ الرسالة جيدا , و لم تدرك حتى اليوم مخاطر الحصار على الشعب الفلسطيني وعمق المعاناة لشعب يواجه الحرب و التجويع و تآكل الحلم لقد قبلت حماس بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود حزيران 67. وقبلت بهدنة طويلة مع إسرائيل وكاد خطابها يتماهى مع خطاب فتح وهو ما يجعل الصراع على السلطة عريانا من أي غطاء أديولوجي أو سياسي.
و الخلاف على السلطة يمكن حله بالتوافق على حكومة وحدة وطنية تحقق أو تكفل توازنا في صنع القرار وتسمح بفك الحصار عن شعب عانى ويلات الحرب منذ أكثر من نصف قرن. ويحرم من لقمة الخبز والدواء و الأمن والسلام.
و الأكثر أهمية من بناء دولة الوحدة الوطنية التوافق على القواسم المشتركة على كثرتها. وتحديد أشكال و أساليب النضال ابتداء من الكلمة، وانتهاء بحق استخدام السلاح في مواجهته استعمار استيطاني يدعي الحق التاريخي في امتلاك الأرض.
عملت حماس ومنذ بدء انتفاضة الأقصى على عسكرة الانتفاضة الثانية، وللأسف فقد أبدت استهانة شديدة بالنضال الديمقراطي و السلمي. و خلطت، أو بالأحرى لم تميز، مابين النضال المسلح الحق والمشروع و بين الا رهاب المرفوض الذي يطال المدنيين. وقد حاولت أن تعطي لهذا الصراع الدامي بعدا دينيا يصب في نهاية المطاف في تأكيد الدعاوى االصهيونية والأمريكية بأن الصراع ديني؛ مما اضعف التعاطف الدولي مع حق الفلسطيني في السيادة و الاستقلال وبناء كيانه الوطني.
إن انتخابات العام 2006 النيابية قد أظهرت قوة حركة حماس المحسوبة على الإسلام السياسي. وأسهمت الخصومات السياسية الداخلية بين حركة فتح وحماس في تأكيد التهمة بالارهاب و تراجع التأييد العربي الرسمي والشعبي لقضية كانت إلى عهد قريب القضية المركزية للعرب جميعا.
و بدأ الرهان و السجال على الأطراف الدولية و المحاور المتصارعة: أمريكا وأوروبا، السعودية، الأردن، مصر من جهة، وإيران وسوريا من جهة أخرى. والفاجع أن معاناة الشعب الفلسطيني قد تحولت إلى ميدان للصراع الكالح والأعمى ويتحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني فلسطيني.
و تظهر إسرائيل و كأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة القادرة على ضبط إيقاعات الصراع في منطقة الشرق الأوسط كله.
فهل يُقدم أبو مازن و فريقه على إلاطاحة بحكومة حماس أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة؟! فذلكم هو المحظور كله.
فلسطين وتآكل الحلم
2006-12-21