كيف نجحت «النداء» في تحرير مئات السجناء؟
في ورشة عمل، في ربيع 2008، طلبت مني الدكتورة رؤوفة حسن، تقديم تجربة "النداء" في تغطية القضايا الحقوقية، لإعلاميات من وسائل إعلام حكومية وصحف أهلية ومعارضة.
اكتفت الدكتورة، وهي أستاذة مقتدرة في الإعلام، بمتابعة العرض، قبل أن تستخلص بأسلوبها الجذاب ما عرضته أنا. قالت إن نجاح صحيفة "النداء" في تحرير مئات السجناء على ذمة ديون وعهد وغرامات (السجناء المعسرين)، مرده تضافر ثلاثة عوامل؛ ميثاق شرف يضبط سلوك العاملين في الصحيفة، وصحفي مثابر، ومحامٍ استثنائي يمكن الوثوق برأيه، واعتماد هذا الرأي أساسًا للتغطية ثم المتابعة.
(من أسف، فإن مؤسسة الدكتورة رؤوفة تعطلت بعد وفاتها في ربيع 2011. والكارثي أن أرشيف المؤسسة اختفى، ولذلك لم أتمكن من الرجوع إلى برنامج تلك الورشة المهمة وأوراقها وتاريخها).
كانت أسرة "النداء"، في 2007، تتسلح بميثاق شرف تم إقراره في أغسطس 2006؛ وكان الزميل علي الضبيبي قد تمكن من الاقتراب من القضية وتعقيداتها، مقدمًا بقالب إنساني مؤثر قضية "السجناء المعسرين" الذين هم في حقيقة الأمر "ضحايا" رجال القضاء والقائمين بتنفيذ القانون؛ ومحامٍ قدير في مجاله هو الأستاذ نبيل المحمدي، لديه قراءته المسبقة لهذه القضية ومسؤولية جهات إنفاذ القانون في وجودها ثم تفاقمها عبر السنين.
والحاصل أنني سألت نبيل المحمدي مرتين في 2005 و2006، عن قراءته كقانوني لقضية "السجناء المعسرين" وبقائهم في السجون المركزية في المحافظات سنوات بعد انقضاء مدد الحبس في العقوبات المنصوص عليها في الأحكام القضائية.
كانت إجابته قاطعة وحاسمة: إبقاء أي سجين في السجن رغم انقضاء مدة الحبس المعاقب بها، هو "جريمة موجبة للعقاب"!
في الأسبوع التالي لتصريح المحامي نبيل المحمدي، فوجئت برسالة من قرابة 20 سجينًا، يطلبون مني بصفتي رئيس تحرير "النداء"، التواصل مع الأستاذ نبيل المحمدي، ليكون وكيلهم في مقاضاة المسؤولين في النيابة العامة والداخلية ومديري السجون!
أذهلني الانقلاب الكامل في وضعية السجناء خلال أقل من شهر (أكتوبر 2006)، من باحثين عن مكرمات رئاسية في عيدي الفطر والأضحى، أو صدقة من تاجر ميسور، إلى أصحاب حق يطلبون من المحامي الذي شق لهم في تصريحه لـ"النداء"، دربًا إلى الحرية!
استجاب المحامي لطلب السجناء، وانضم إليه أربعة آخرون هم الأساتذة المحامون أحمد الوادعي وهائل سلام ومحمد علي البذيحي ومحمد المداني. وتشكلت هيئة دفاع عن "المحتجزين على ذمة غرامات وديون وعهد خاصة"، برئاسة الأستاذ القدير أحمد الوادعي.
كان هذا أبرز تطور حدث في أعقاب تحقيق "النداء". وهو التطور الذي دفع سلطة القضاء والحكومة بعد أشهر إلى التسليم بموقف الهيئة، والبدء بمعالجة أخطائها المزمنة في فهم القانون!
ومن أكتوبر 2006 إلى نهاية 2007، كانت قضية "المحتجزين على ذمة غرامات وديون وعهد"، تشغل الرأي العام، مع انضمام العشرات من المحتجزين (السجناء) إلى زملائهم بتوكيل هيئة الدفاع. وبدأ المئات في سجون أخرى يمدون أعناقهم أعلى قضبان السجون، ليروا مآل سجناء العاصمة!
كان الضغط الواقع على مجلس القضاء والنائب العام كبيرًا:
هناك الآلاف من اليمنيين من فئات متنوعة (بينهم تجار كبار) سجناء بسبب غفلة السلطة القضائية وركونها إلى تفسيرات خاطئة للقوانين ترتب عليها مآسٍ للضحايا وأسرهم. والآن فإن رجال السلطة القضائية في حرج شديد، يبحثون عن مخرج لتدارك ما وقع!
النائب العام الأستاذ القدير عبدالله العلفي، اتصل بي في مكتبي، وقال لي إنه التقى الأساتذة المحترمين في هيئة الدفاع عن المحتجزين، ظهر اليوم، و"رأيهم سديد ولا غبار عليه"، لكن اعتماده، فورًا ودفعة واحدة، سيتسبب في فوضى وردود أفعال لا نعلم مداها، خصوصًا من الغرماء والدائنين!
أجرت هيئة الدفاع برئاسة الأستاذ أحمد الوادعي، لقاءات عديدة بالنائب العام، ورئيس مجلس القضاء، ووزير العدل، وتوصلت في صيف 2007 إلى اتفاق يؤمن إنهاء العسف الواقع على "شوعي" ورفاقه منذ سنوات... وعقود.
غادر عشرات "المحتجزين" عنابر السجن المركزي في العاصمة، ولاستئناف حيواتهم. وفي السنوات اللاحقة سارت الأمور اعتياديًا طبق الاتفاق المبرم بين هيئة الدفاع ومسؤولي السلطة القضائية، وتم إطلاق المئات من المحتجزين والمحتجزات في السجون المركزية في صنعاء ومختلف المحافظات.
في يونيو 2011 توقفت "النداء" عن الصدور بعد حصار مكتبها من مسلحين موالين للرئيس الأسبق صالح. استمر الحصار، وبالتالي التوقف، حتى مطلع العام 2012 عندما صدرت التعليمات للمسلحين بالانصراف، فانصرفوا بعد وضع لمستهم الأخيرة على المكان؛ اقتحموا المكتب، ونهبوا كل ما يحتويه من تجهيزات، فتعطل نهائيًا إصدار "النداء" الورقي.
في سنوات التوقف (يونيو 2011 -سبتمبر 2022) عادت الجهات المختصة سيرتها الأولى، فأطلق الرؤساء مكرماتهم، وتصدق التجار بما يزكي أعمالهم، ومارس مديرو السجون المركزية سطوتهم على المحتجزين، واحتفت الصحف والمواقع الإخبارية بالمناسبة، تمامًا كما كانت الصحف اليمنية تحتفي بمكرمات الرئيس الأسبق!
هذه قصة نجاح نقدمها للقراء عمومًا، وللمشتغلين في الإعلام والقانون وحقوق الإنسان. وأجد لزامًا أن أتقدم بالشكر الجزيل لهيئة الدفاع برئاسة المحامي القدير أحمد الوادعي، وإلى النائب العام الأسبق الدكتور عبدالله العلفي. ولا يفوتني في ختام التقديم ذكر الدور المحوري للفقيد العزيز بشير السيد، يرحمه الله، الذي اضطلع من موقعه في سكرتارية التحرير، في الإشراف على الملف، وبذل العون للزميلين علي الضبيبي وهلال الجمرة، في إنجاز عملهما.
* تقديم كتاب"السجناء المعسرون: القضاء حِصن أم خصم؟"