صنعاء 19C امطار خفيفة

جدتي خديجة

جدتي خديجة
قصة عن يدٍ تخيط الصوف، وتغزل الحب في من حولها.
في صباحٍ شتوي من طفولتي، دخلت من حوش البيت حافي القدمين، وجيبي ممتلئ بالفتاتير (خرز صغير ملون) جمعتها بعد انتصارٍ في لعبتنا البارحة. كانت تصدر أصواتًا خفيفة كلما تحركت، وكأنها تحتفل معي.
لم يكن في بالي وجهة ما،
فقط أتجوّل كما أفعل كل صباح، أتنقل بين زوايا الحوش كأنني أكتشفه للمرة الأولى.
حين وصلت إلى شرفة البيت، وقفت أمام نافذة خشبية تطل على الصالة. كانت جدتي هناك، تجلس على الأرض، ظهرها مستند إلى وسادة قديمة، ويدها منشغلة بخياطة الصوف.
الخيط يلتف حول أصابعها، والإبرة تتحرك بثقة، كأنها تعرف الطريق وحدها.
لم تفارقها تلك الخيوط حتى رحلت، رحمها الله.
أمامها جبنة البن وفنجان قهوة، ساكنان في هدوء يشبهها.
والراديو الصغير بجانبها يهمس بأغنية قديمة، بالكاد تُسمع.
لم أنادِها، ولم أطرق الباب.
اكتفيت بالمراقبة من خلف الزجاج، فالمشهد كان مكتملًا دون صوت.
جدتي كانت طيبة بلا حدود.
لم أرها تغضب، أو ترفع صوتها، أو تشتكِ.
جميلة، سمراء بلون البن الذي تحبه.
كانت تخيط الصوف وكأنها تخيط الحب، تغزل الحنين، وتنسج الطمأنينة في كل من حولها.
شعرت بشيء لا يمكن تسميته، ربما كان الأمان، بالقرب منها.
فتحت الباب بهدوء، خشية أن أقطع خيطًا من خيوطها.
كنت مترددًا، فقدماي متسختان من تراب الحوش،
دخلت بخطوات صغيرة، واثقًا أن حضنها لا يحتاج إذنًا.
رفعت رأسها، ونظرت إليّ بعينين فيهما دفء العالم كله.
لم تتكلم، فقط ابتسمت.
ثم مدّت يدها إلى شنطة صغيرة بجانبها، وأخرجت ريالًا واحدًا، مطويًا بعناية، وقالت:
"خذه، اشترِ لك شيئًا تحبه".
أمسكته كأنني أمسك القمر.
جلست بجانبها، أراقب خيوط الصوف وهي تعود للحركة،
والراديو يواصل همسه،
والقهوة تبرد ببطء،
والصباح يكتمل.
مرّت أعوام كثيرة منذ ذلك اليوم.
كبرت، وغادرت البيت، ثم عدت، ثم غادرت من جديد.
كل شيء تغيّر: الحوش في فوضى، الجدران شاخت، الراديو صامت، حتى فنجان القهوة الذي كان لا يفارقها لم يعد موجودًا.
جبنة البن تكسّرت، والسترة التي كانت تحيكها اختفت، والأصوات التي كانت تملأ المكان غادرت مع أصحابها.
كم أكره البيوت التي تخلو من الضجيج، من ضحك النساء وكلامهن، من عراك الأطفال ولعبهم.
في زيارة عابرة، وقفت أمام النافذة نفسها.
كانت مغلقة، لكن المشهد خلفها ما زال حيًا في ذاكرتي، كما لو أن الزمن توقف هناك.
لمست الزجاج، وكأنني ألمس يد جدتي من جديد.
أغمضت عيني، وتذكرت الريال... ذلك الريال الصغير، المطوي بعناية.
أخرجت من جيبي ورقة نقدية جديدة، وطويتها بالطريقة نفسها،
ثم وضعتها على حافة النافذة، دون أن أقول شيئًا.
لم يكن هناك أحد ليأخذها،
لكنني لم أكن أقدّمها لأحد.
كانت هدية للذاكرة،
للصباح،
للصوف،
للبن،
للحب الذي لا يُنسى،
للحنين.
ثم ابتسمت، تلك الابتسامة التي ورثتها منها، وغادرت بهدوء،
كما دخلت أول مرة.

الكلمات الدلالية