صنعاء 19C امطار خفيفة

نحو دولة المواطنة المتساوية.. التحرر من القبيلة والمشيخات

في شمال اليمن، سقطت الإمامة في 26 سبتمبر 1962م، وسقط معها حكم السلالة الذي استأثر بالسلطة والثروة لعقود. قامت الجمهورية على أنقاض ذلك النظام الكهنوتي، لكنها لم تكن جمهورية مدنية بمفهومها الحديث، بل تشكلت من تحالف قبلي -عسكري ينتمي للطائفة الزيدية ذاتها التي أنتجت الحكم الإمامي في الأصل، فاستبدلت العمامة بالبندقية، والسيد بالشيخ، واستمرت الهيمنة على السلطة من داخل نفس الجغرافيا والمذهب، ولكن بلبوس جديد.

 
الجمهورية التي حلم بها الثوار الأوائل لم تترسخ كدولة مؤسسات، بل تحولت مع الزمن إلى دولة مشيخة عسكرية يتحكم بها زعماء القبائل وقادة المعسكرات، وبدل أن تفتح أبواب المشاركة الوطنية، أغلقتها أمام أبناء الهامش والمناطق الأخرى، وأبقت على منطق الامتيازات والولاءات الضيقة.
 
وفي جنوب اليمن، قامت دولة جديدة بعد رحيل الاستعمار البريطاني عام 1967م، منهية قروناً من حكم السلاطين والمشيخات المتفرقة. أعلنت الدولة الوليدة مشروعًا طموحًا للتحول إلى نظام اشتراكي مركزي واجه الكثير من التحديات، لكنها وقعت سريعًا في فخ الصراعات المناطقية، وبرز التنافس بين منطقتي الضالع ودثينة بشكل خاص، وهو ما أدى إلى تفكك الصف الوطني وتراكم التوتر، حتى وقعت المجزرة الكبرى في 13 يناير 1986 التي كانت لحظة مفصلية في تاريخ الجنوب، وأسهمت في إعادة تشكيل مراكز القوى من جديد.
 
لقد خرج اليمن من حقبتي الإمامة والاستعمار، لكنه لم ينجُ من سطوة الطائفة، وسطوة القبيلة، وسطوة المنطقة. فكل مشروع وطني تم إفراغه من مضمونه تحت عباءة العصبية والانتماء الضيق، وبدلًا من بناء دولة مدنية حديثة، تم إنتاج أنظمة تحكمها تحالفات مصلحية بين السلالة والقبيلة والمنطقة، تعيد إنتاج الأزمة في كل جيل، وتقطع الطريق على أية نهضة وطنية حقيقية.
 
اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على الثورتين اليمنيتين في الشمال والجنوب، ها نحن أمام مشهد يعيد نفسه بصور أشد قسوة. فالسلالة التي أُسقطت في الشمال عادت بوجه عسكري عقائدي عبر جماعة الحوثي، وتصدرت الحكم مجددًا تحت راية "الحق الإلهي"، مدعومة بخطاب فوقي إقصائي لا يعترف بالمواطنة ولا بالتعدد. وفي الجنوب، تبرز الضالع بوصفها صاحبة اليد العليا في مفاصل القرار، مدعومة بقوة عسكرية وتنظيم سياسي يتحدث باسم الجنوب، لكنه في الواقع يتكئ على منطقة واحدة، ويفرض رؤيته وسلطته على بقية الجنوبيين أحيانًا بالقوة، وأحيانًا بالإقصاء. وفي المقابل، لايزال مشروع الجمهورية في الشمال أسيرًا للقبيلة والسلاح والفساد، غير قادر على استيعاب المتغيرات ولا على إعادة إنتاج نفسه كمشروع مدني جامع. وهكذا، تتصارع المشاريع الناقصة والفوقية على الأرض اليمنية، دون أن يمثل أي منها حلم المواطن البسيط في دولة عادلة تحمي حقوقه وكرامته.
 
لقد مضت عشر سنوات من الحرب المدمرة التي أعادت البلاد عشرات السنين إلى الوراء. حرب أنهكت الدولة، ومزّقت النسيج الاجتماعي، وفتحت شهية القوى الإقليمية والدولية للتدخل، لكنها لم تفضِ إلى أي مشروع وطني جامع. بل يبدو أننا أمام سيناريوهات مفتوحة على مزيد من الاقتتال والتشظي، ما لم يتم كسر الحلقة الجهنمية المتمثلة في سطوة السلالة، وسطوة القبيلة، وسطوة المنطقة. وإذا لم يدرك السلالي، والقبيلي، والضالعي، والدثني، وكل من يظن أن له امتيازًا على بقية أبناء الوطن، أن لا خلاص إلا بمشروع وطني جامع قائم على المواطنة المتساوية، فإن الكارثة ستتسع، ولن يكون هناك سلام ولا استقرار.
 
الحل الوحيد لخروج اليمن من نفقه الطويل ليس في تقسيمه، ولا في فرض وصاية جديدة، ولا في إعادة إنتاج المشاريع الضيقة، بل في بناء دولة تحترم كل مواطنيها، لا تُفرق بين شيخ ورعوي، ولا بين سيد وعبد، ولا بين شمالي وجنوبي. دولة يحتكم فيها الجميع للدستور والقانون، لا لعُرف القبيلة، ولا لتأويل السلالة، ولا لسلاح الفصائل. دولة تُبنى على أساس الحقوق المتساوية والعدالة الاجتماعية، وتمنح المواطن كرامته دون سؤال عن نسبه أو منطقته. دولة تقوم على المؤسسات لا على الولاءات، وعلى السيادة الشعبية لا على تفويض السماء أو شرعية السلاح. ما لم يتحقق ذلك، فإننا سنبقى ندور في نفس الدائرة، وسنضيف إلى هذه الحرب عشر سنوات أخرى، وربما أكثر، وحينها لن يكون أمامنا سوى أن نقول -بمرارة صادقة- على اليمن السلام.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً