منذ إعلان الهدنة في اليمن وانطلاق ما عُرف بـ”خارطة الطريق”، بُنيت آمال واسعة لدى اليمنيين على إمكانية أن تفضي تلك العملية إلى إنهاء الحرب التي دمّرت البلد على مدى عقد تقريبًا، والولوج إلى مسار سياسي شامل يضع حدًا لمعاناة شعبٍ أنهكته الحرب والحصار والانقسام.
لكن مع مرور الوقت، بدأت ملامح الخيبة تتكشّف، وأصبح من المشروع اليوم أن نسأل: هل أضاعت خارطة الطريق طريقها؟
قامت العملية السلمية على ثلاث ركائز.. ركيزة واحدة فقط نُفذتخارطة الطريق التي تبنّاها الوسطاء الدوليون والإقليميون استندت إلى ثلاث ركائز رئيسية:
1. وقف إطلاق النار.
2. تدابير إنسانية واقتصادية ملحّة.
3. عملية سياسية شاملة تقود إلى تسوية نهائية.
على أرض الواقع، لم يُنفذ من هذه الركائز سوى البند الأول، وهو وقف إطلاق النار. أما الركيزتان الأهم، الإنسانية والسياسية، فقد تم التسويف فيهما عبر لقاءات مطوّلة امتدت قرابة عامين، ثم جاء تجميد الرياض العلني للالتزامات، بذريعة العقوبات الأمريكية المفروضة على صنعاء بسبب إسنادها للمقاومة الفلسطينية في غزة.
ذريعة العقوبات الأمريكية: حقيقة أم مجرد عذر؟
ربما يُفهم تمسّك الرياض بهذه الذريعة في الإطار السياسي والدبلوماسي، خاصة في ظل ضغوط واشنطن تجاه شركائها في الإقليم، لكن من غير المقبول استخدامها لتبرير التهرب من الالتزامات الإنسانية.
ذلك أن آثار هذا التنصل لم تقتصر على صنعاء الخاضعة للعقوبات، بل طالت أيضًا المحافظات الجنوبية الواقعة تحت ما يُعرف بـ”الشرعية” والمدعومة من التحالف، وهي مناطق لا تشملها العقوبات الأميركية أصلًا. هذا وحده كفيل بنسف الذريعة، ويؤكد أن التنصل السعودي من خارطة الطريق قرارٌ استراتيجي، لا اضطرارٌ سياسي.
مؤشرات التنصل العلني: من الرواتب إلى التحشيد
الأدلة على التنصل لم تقتصر على الامتناع عن تنفيذ التدابير الإنسانية والاقتصادية، بل تجاوزت ذلك إلى تحركات عسكرية واضحة:
• استمرار عمليات التجنيد والتدريب والدعم اللوجستي لفصائل مسلحة في المناطق الجنوبية.
• تكثيف الدعم السياسي والإعلامي للأطراف المحلية الموالية.
• وأبرز تلك المؤشرات: حادثة إجبار أمير الكويت على تقديم اعتذار رسمي في القمة الخليجية–الأميركية، بعد وصفه صنعاء بـ”السلطة”، في مشهد أظهر حجم الرفض السعودي لتسوية في اليمن، واستعدادها لفرض خطوطها الحمراء حتى على خلفية كلمة واحدة عابرة على الهامش.
في موازاة هذا المشهد، استمرت الرواتب في الانقطاع، سواء في مناطق سيطرة صنعاء أو حتى في مناطق “الشرعية” التي لا تشملها العقوبات الأميركية، ما يعكس انهيارًا تامًا لأي التزام حقيقي بمضمون خارطة الطريق، حتى في جانبها الإنساني.
صمت صنعاء: اللغز الأكبر
غير أن المثير للدهشة ليس تنصل الرياض – فهذا كان في الأصل جزءًا من أهدافها منذ بداية الحرب – بل صمت صنعاء الغريب والمربك، وعدم صدور أي موقف رسمي يوازي حجم هذا التنصل العلني.
وبينما تتجاهل قيادة صنعاء هذا الملف، انقسمت التفسيرات داخل الأوساط السياسية إلى مذهبين:
1. تفاهمات سعودية–إيرانية، جرى فيها تقديم اليمن كورقة تفاوض أو ميدان تهدئة بين الجانبين، ما فرض على صنعاء الصمت لتجنّب إفساد التوافقات الكبرى.
2. أن الرياض تقدم دعمًا ماليًا غير معلن لصنعاء “تحت الطاولة”، وهو ما تسرّبه بعض الجهات المقرّبة من الرياض كنوع من تبرير تجميد التزاماتها المتفق عليها في خارطة الطريق. وإن صحّ ذلك، فإنه يسقط حجة العقوبات الأميركية، ويكشف أن كل الأطراف اليمنية متواطئة بدرجة ما في تقويض الاتفاق.
وماذا بعد؟
الواقع المرير يقول إن خارطة الطريق تحولت من مشروع للسلام إلى مجرد مناورة سياسية مؤقتة، سعت من خلالها الأطراف الإقليمية لترتيب أوراقها، وإعادة هندسة أدواتها في الداخل اليمني، بينما تُرك الشعب اليمني على الرصيف مجددًا، ينتظر حلاً لا يأتي، وراتبًا لا يصل، وتعويضًا لا يُصرف، وحربًا لا تنتهي.
وإن لم تخرج الأطراف اليمنية عن صمتها، ولم تتحلَّ بقدر من الشفافية تجاه شعبها، فإن ما تبقى من خارطة الطريق لن يكون سوى ورقة ذابلة تُضاف إلى أرشيف الخيبات الطويلة.
ختاماً:
خارطة الطريق لم تضلّ الطريق فقط، بل تمّ إخراجها من المسار عمدًا. وإن لم تكن هناك وقفة جادة لمراجعة الأداء، ومصارحة الناس، وإعادة الاعتبار للملف الإنساني والسياسي، فإن ما يُسمى بالسلام سيكون مجرد هدنة للالتفاف أو هدوء قبل عاصفة، لا جسرًا لعبور آمن نحو المستقبل.
وهذا قد أصبح واضحاً وضوح الشمس في رابعة السماء، في غرة الصيف.