في لحظة الحقيقة، حين يعلو صوت الاشتباك، ويتصاعد دخان المواجهة، ينسحب نصف الشعب إلى الظلال... ينظر ولا يتكلم، يحسب ولا يشارك، يراقب ثم يتكلم كثيرًا حين تسقط الجثث.
هؤلاء هم الصامتون حين تُخاض المعركة، والمتكلمون حين تُهزم، أولئك الذين لا يصطفّون، ولا يعلنون موقفًا، بل يقفون على حافة الزمن يرقبون النتائج ليقرروا بعدها: هل يرفعون المنتصر على الأكتاف؟ أم يسنّون السكاكين في وجه المنكسر؟
ما الذي يجعل الإنسان يتحول من مواطن إلى متفرج؟
من شريك في المصير إلى معلق رياضي على مشهد وطن ينزف؟
التحليل النفسي: الهروب الكبير من المسؤولية
الصمت الجمعي ليس فقط خوفًا، بل في كثير من الأحيان استراحة من الأخلاق. فحين تنسحب الجماعة من الفعل، تزيح عنها عبء الخطأ، وحرج القرار، ومخاطر الانحياز.
في اللاوعي، هناك معادلة نفسية مرعبة:
"من يشارك يتحمل، ومن يراقب ينجو".
لكنها معادلة كاذبة، لأن التاريخ لا يرحم من وقف صامتًا في لحظة حسم، ولا يكافئ من خلع قلبه ولبس الحذر.
يتغذى هذا النمط من السلوك على ذاكرة جمعية مشوهة، عاش فيها الناس تجارب الخيانة والغدر، ففضلوا الصمت على الخذلان. لكن المشكلة أن هذا الصمت نفسه يتحول إلى خذلان، ثم إلى خيانة مبطنة.
التحليل الاجتماعي: حين تصبح الأمة "جمهورًا"
في المجتمعات التي تم تفريغها من قيم المشاركة والتضامن، ينقلب الشعب إلى جمهور.
يصفق إذا انتصرت اللعبة، ويقذف بالحجارة إذا خسر الفريق.
هذا الجمهور لا يسأل عن الخطة، ولا يشارك في التدريب، لكنه دائمًا أول من يصرخ من المدرجات:
"أضاع الفرصة!"
"لم يعرف كيف يقود!"
"لو كنت مكانه لانتصرنا!"
إنها تراجيديا عربية بامتياز: المثقف جبان، والعامة حذرة، والنخب مترددة، والثائر يُسقط ثم يُترك وحيدًا، ثم يُحاكم لاحقًا لأنه لم ينجح في بناء المدينة بمفرده!
سيناريو بديل: لو شارك الشعب في المعركة
تخيلوا لحظة واحدة، لو أن الجميع قرر أن يشارك لا أن يترقّب:
لو أن المثقف كتب لا لينتقد فقط، بل ليرشد.
ولو أن التاجر دعم لا ليكسب، بل ليبني اقتصادًا نظيفًا.
ولو أن الجار لم يكتفِ بالفرجة، بل خرج من بيته ليحمي حيّه.
لكان صوت المعركة أقوى، ولكان النصر أقرب، أو على الأقل... كانت الهزيمة أكرم.
العبرة المؤلمة: لا فخر في الهروب
لقد عشنا جيلًا يتغنّى بالأمجاد بينما يدفن كرامته اليومية في تسويات ومصالح وصمت خانع.
جيلٌ من الآباء -وإن كانت نيتهم السلامة- أورثنا الخوف لا الحكمة، والشك لا الوعي، والحذر لا الشجاعة.
اليوم، يُعاد المشهد، ولكن على شاشة أوضح:
نصف الشعب يقاتل... والنصف الآخر ينتظر النتيجة ليكتب التعليق.
خاتمة لاذعة: يا من تصمتون، أنتم شركاء الجريمة
الصمت في زمن القرار ليس حكمة، بل تواطؤ.
والحياد في لحظة الظلم ليس عدالة، بل جبن.
ومن ينتظر أن تُحسم المعركة ليقرر موقفه، فقد باع ضميره للسلامة، وخان أبناءه قبل أن يخون وطنه.
افعلوا شيئًا. قولوا كلمة. انزلوا من فوق الجدار. فالحياد وهم، والمتفرج قاتلٌ دون أن يمسك السكين.