الكتابة عن الوالد الأستاذ المثقف المستنير الإنسان عبدالحفيظ المحبشي فَضاءٌ واسع يصعب الإحاطة به وتَقصِّيه.
كم كنت محظوظًا بمرافقة الوالد لمجالس مقيل العم عبد الحفيظ؛ حيث كَانَ يجتمع فيه ثُلَّة مِنْ السياسيين والمثقفين كالعم عبد العزيز الزارقة، والعم يحيى منصور أبو أصبع، والعم زيد جحاف، وابنه المرحوم زيدون، والعم العزيز محمد راصع، والعمين: عبد الملك، وأحمد البشاري، والأخ النابغة المرحوم علي الحريبي، والأخ سهيل عبد الباري.
وفي بعض الأحيان كَانَ يُطلب مِنِّي في المجلس قِراءةَ موضوع معين نُشِرَ في إحدى الصحف، فأقوم بقراءته، ثم يدور النقاش بشأنه.
كَانَ العم عبد الحفيظ دَمِثَ الأخلاق، قريبًا من الناس، ودودًا. لم يَكُنْ شَخْصًا مُتعَاليًا يعيش في عُزلةٍ عَنْ مُحِيطهِ وعصره. حتى مَنْ هُمْ في عِداد أولادهِ لم يكن يعاملهم ولا يراهم إلا بعين قلبه الكبير كِبرَ هِمَّتِه، وصفاءِ روحه. فكثيرًا ما تراه يهتم بهم، ويسأل عنهم، ويشجعهم في كل أعمالهم التي يقومون بها.
لم أكن محظوظًا كأخي سهيل الذي رافق الوالد والأستاذ عبد العزيز الزارقة كثيرًا في تلك المجالس، لكن الفترة القليلة التي حظيت بها بمجالسته لم تكن قليلةً بالنسبة لي.
كانت مُكثفةً بما يكفي لِيشعَّ النُّور المنبعث منه بداخلي. وقد انتسج بيننا من الود والمحبة والتقدير الكثير؛ حتى لقد كان يعتمد علي في بعض الأحيان بالقيام بمهام تخصه كَواحِدٍ من أبنائه: معاذ، وزيد حفظهم الله.
لم تنقطع الصلة بين الوالد وبينه حتى عند تركه أو بيعه لمنزله، وانتقاله لمنزل الأسرة في شارع تونس مع بداية الحرب، وكنت أزوره بمعية الوالد حينًا وبمفردي حينًا آخر، وظلَّ يمدني ولا يبخل علي بالكتب التي يرى أنها قد تفيدني وتسهم في بنائي بناءً فِكرِيًّا سَليمًا. فالله يجزيه عني كل خير.
لم أعرف مِنْ أبناء العم عبد الحفيظ إلا معاذ الذي كان يشاركنا المقيل، وهو شخص نبيل وعلى صفاء وخلق كبير.
أمَّا زيد فلم يتسنَّ لي معرفته كثيرًا لعدم حضوره تلك المجالس بسبب مشاغله، إلا أنَّ العم عبد الحفيظ كان كثير الإشادةَ به، جَمَّ الثناء عليه. فالله يحفظهما ويبارك فيهما. ومِمَّنْ عَرفتهُ من أقارب العم الأستاذ عبد الحفيظ: الدكتور الفاضل الكريم محمد المحبشي.
تواصلت بالأخ معاذ للكتابة عن والده، فما قصر واستجاب، وأحالني للأخ زيد الذي قام بتزويدي بسيرته مشكورًا، فقمت بتحريرها.
فإلى سيرة الأستاذ السفير عبد الحفيظ المحبشي..
سعادة السفير المثقف الرفيع، والإنسان الكامل عبدالحفيظ بن يحيى بن عبدالله المحبشي.
هو دبلوماسي، وسياسي، وأديب، ومثقف موسوعي. ومؤلف، ناقد، وشخصية اجتماعية وازنة.
وُلِدَ بشهارة؛ محافظة حجة، عام 1956، وتوفي بصنعاء، يوم الأحد 27 ربيع الأول 1441هـ، الموافق 24 نوفمبر 2019.
درس الأساسي والثانوي بصنعاء. وفي بداية سبعينيات القرن الماضي التحق بجامعة القاهرة، وحصل منها على الماجستير في العلوم السياسية في العام 1977.
بعد عودته من القاهرة التحق بوزارة الخارجية، وَتَدرَّجَ في السلك الدبلوماسي ابتداءً من ملحق دبلوماسي، فمستشار، فقنصل، فوزير مفوض. وفي 22 يونيو 2016 صدر قرار جمهوري بترقيته إلى رتبة سفير.
شَغلَ العديد من المناصب في ديوان عام وزارة الخارجية، وتحديدًا في دوائر آسيا وأستراليا، وفي الدائرة الإعلامية.
مَثّلَ اليمن في العديد من الدول منها: الولايات المتحدة الأميركية، والسعودية، وأثيوبيا، وفي الأخيرة أُسْنِدَ له منصب نائب السفير.
شَاركَ في العديد من الدورات التأهيلية، والمؤتمرات العلمية المحلية والعربية والدولية، وله العديد من الكتابات والأبحاث؛ منها ما نُشِرِ في بعض الصحف والمجلات كـ «مجلة الكلمة»، و«صحيفة الثورة».
كان مَجلِسهُ قبلةَ السياسيين والمثقفين والأدباء والعلماء وكبار رجالات الدولة، وكان بيته مهوى الباحثين عن النصيحة والمعلومة في كافة مجالات المعرفة.
مجالسته لا تخلو من الفائدة، وأحاديثه لا تُملَّ: سياسةً، وأدبًا، وتاريخًا، وابتسامته نقية صافية كالماء الرقراق.
يُخجِلك بخلقه الرفيع، وأدبه الجم، وتواضعه لكُلِّ مَنْ يلقاه أو يَحظى بمجالسته.
كتب عنه الوالد الأستاذ عبد الباري طاهر مقالاً بعنوان «المثقف عبد الحفيظ المحبشي رحيل فاجع»، فقال عنه إنه: "إنسان عظيم ورائع". وذكر اقترابه من التيار القومي الناصري في مقتبل عمره.
وأنه مثقف واسع الاطلاع، غزير المعرفة. جم الأدب، شديد التواضع، لا يتفوق على تواضعه إلا علمه ومعرفته، مع عزوفه عن التفاخر وحب الظهور.
ذو خلق عظيم مِنْ (الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
وذكر أنه بعد تخرجه من جامعة القاهرة عمل في السلك الدبلوماسي حتى نال رتبة السفير، لكنه ظُلِمَ حَدَّ الغبن.
وقد أمضى صديقه الأثير عبد العزيز الزارقة والوالد عامين كاملين يراجعان؛ لتصحيح وضعه في الخارجية؛ والعودة إلى عمله في الخارج دون جدوى رغم الأوامر المتكررة الزائفة.
ونَوَّه الوالد الأستاذ بذكر أسرته الكريمة التي احترفت القضاء لآمادٍ متطاولة، واشتهر بعضهم بالنزاهة والكفاءة والإنصاف؛ كالقاضي محسن المحبشي الذي حَكمَ على الإمام أحمد في نزاعه مع قبيلة القُحْرَى.
وكتب الدكتور نشوان حميد الفائق، كلمة عنه فقال: "كان لي الشرف بمعرفته والجلوس معه ومناقشته بل الاستفادة منه.
وقد وجدته هامةً وطنية لا تُعوَّض، ومناضلاً جسورًا، ومفكرًا من الطراز الفريد العميق. واسع الاطلاع. محب للقراءة. متضلع في المعرفة.
ينزل الى كُلَّ المستويات، ويناقش كُلَّ الأفكار. لا تجد مللاً أو ضجرًا أو حتى تعنتًا، بل تجد مساحة واسعة من الرحابة والحفاوة والأفكار التي تعكس غور المفكر وسعة اطلاعه. يكتنز ذاكرة وطنية، ويحتوي كنوزًا معرفية".
وذكر أخلاقه الإنسانية، فقال: "يعاملك كأب وكأخ وكزميل. يرحب بالحوار، ويحب النقاش، ويقدر المعلومة، ويثمن الثقافة، ويحترم الحقيقة".
ثم ختم حديثه قائلاً: "والله أحسست برفعة في شخصيتي، وتغير في أفكاري بجلوسي معه وتعرفي عليه".
وتحدث عنه صديقه السفير الأستاذ عبد الله عباس المتوكل، فقال: "كنت على موعد بالتلفون لزيارته في بيته بعد عودتي من غياب عن الوطن لسنوات، ثُمَّ فُوجِئتُ بعد يومين بفاجعة وفاته..
أَتيتُ ولكنني لم أصلْ
وصلتُ ولكنني لم أعُدْ
لَمْ أجدْ صاحبي في انتظاريْ
وَلَمْ أجدْ المقعدين المُعَديَّن لي وله!
(محمود درويش)
وَرثاهُ بقصيدةٍ قَالَ فيها:
أحقًّا أنَّ هذا الموتَ حَقُّ
وأنَّ البَحرَ يَطويهِ الأصِيلُ؟
وأنَّ مساحةَ الأشياء صَارتْ
حُدودَ الرُّوح مُذْ غَابَ الدليلُ؟
المصدر:
- معلومات وافاني بها ابنه الأخ العزيز الصحفي زيد عبد الحفيظ المحبشي.
- سيرته الذاتية قام بكتابتها الصحفي زيد يحيى المحبشي. أرسلت بواسطة الأخ زيد.