(1)
أي قارئ لتاريخ اليمن القريب -خلال المائة العام الماضية على وجه التحديد- لا بُد أن تستوقفه عديد أحداث تُحيل بمجملها إلى مصائر واحدة ربطت اليمنيين في شمال البلاد وجنوبها وشرقها وغربها، ومنها أن الكثير، والكثير جدًا، من الشخصيات -في أزمنة التقسيم السياسي المتعاقبة- حينما كانت تضيق بهم البقعة التي يقيمون عليها، ينتقلون إلى بقعة مجاورة على الجغرافيا ذاتها، من منطلق واحدية الأرض والإنسان.
مثلًا رافق الجيش التركي في تحركه إلى عدن ولحج في العام 1917م، مئات الشخصيات والأفراد العاديين في بحثهم عن حلم سياسي كبير لم يتحقق، والعديد من هؤلاء اتخذوا من لحج وعدن مستقرات جديدة، صاروا مع الوقت أرباب أسر معروفة وكبيرة، ويقفز إلى ذهني ما سطره الراحل حسين علي الحبيشي، الذي أشار في مذكراته (محطات حياتي - 2003) إلى أن جدّه ووالده قدما إلى لحج أولًا من القوات التركية، وكانا من متعهدي التموين للجيش، إذ كانا يوفران لهم الخرفان والدجاج والبيض وغيرها من مواد الإعاشة، وبعد وفاة الأب استقر الابن في الشيخ عثمان مؤسسًا أسرة معروفة خرج منها القانوني الكبير حسين بن علي الحبيشي، أول مدير لكلية بلقيس في عدن منذ تأسيسها في العام 1961م، وتاليًا الرئيس التنفيذي للمكتب القانوني في حكومة الجمهورية العربية اليمنية، ومستشارًا قانونيًا للرئاسة اليمنية حتى وفاته في العام 2010م.
جد الفنان إسكندر ثابت من أمه صالح حسن، الذي تلقّب بالتركي، ويقال إنه كان يربي الديك الرومي في حوش منزله ويبيعه للإنجليز بعد أن كان يقوم بالمهنة ذاتها أيام تواجد الجيش التركي -وقد قدم غالبًا مطلع القرن العشرين من إحدى مناطق اليمن الداخلية- وهذا الرجل كان له الفضل الكبير في تعليم العشرات من الطلاب اللغة الإنجليزية والموسيقى في مكتبه في الشيخ عثمان، وصار بعضهم أعلامًا كبارًا في تاريخ اليمن، أمثال المرشدي ومحمد سعيد مسواط وإدريس حنبلة ومحمد أحمد يابلي (والد الصحافي الراحل نجيب يابلي)، بالإضافة إلى حفيده الفنان إسكندر وشقيقه سعيد ثابت والد الفنان نجيب سعيد ثابت.
يقول الفنان محمد مرشد ناجي إن والده، الذي ينتمي إلى معافر الشوَّيفة بالحجرية، قدِم إلى عدن هو الآخر هربًا من عذاب الإمامة، وفي عدن جنّد سُخرة في الجيش التركي الذي رابط في لحج والشيخ عثمان، وبعد خروج الجيش التركي تنقّل كعامل بالأجر اليومي في أكثر من مكان، حتى استقر به المقام في إحدى شركات الملح الهندية في منطقة الحسوة، بعدها تزوّج من أمه (عورلا عبدي) لينجبا هذا الفنان والمثقف العظيم.
هرب الفنان محمد بن شرف الدين، المنحدر من منطقة كوكبان، إلى عدن مطلع العشرينيات، بعد أن ضيَّق الإمام يحيى على المطربين بتحريمه الموسيقى والغناء، وتلقّب في عدن بالماس، تخففًا من حمولة اللقّب، فكان أن ورَّث شغفه بالطرب ولده إبراهيم، الذي صار مع الأيام واحدًا من أهم المطربين، ليس في عدن، بل في اليمن والخليج، طيلة فترة الأربعينيات والخمسينيات.
نشأت في عدن الكثير من الأسر التي تلقّبت بأسماء المناطق التي انحدر منها الأجداد، وصارت مع الوقت من واجهات المدينة الحيوية، وقت كانت بوابة للتحديث والعصرنة، وممرًا حيويًا للمهاجرين من الداخل اليمني إلى بلدان شرق ووسط إفريقيا وموانئ العالم الحيوية، مثل ليفربول ومرسيليا وعصب ومصوع، قبل أن يعود أكثرهم ويستقروا فيها كتجار معروفين، ومن البيوتات اليمنية المعروفة في عدن بيت الزيدي، ومنها الفنان محمد عبده زيدي، وأسرة الهمداني، ومنها أحمد علي الهمداني، وأسرة الصنعاني في لحج وعدن، ومنها الفنان محمد سعد الصنعاني، وأسرة المقطري، ومنها أحد مؤسسي حزب الرابطة علي محمد المقطري، والمثقف الكبير الراحل هشام علي بن علي، وأسرة الشيباني، ومنها الأديب والصحافي الراحل إسماعيل شيباني، أحد ضحايا أحداث 1986م، حتى إن حواري كاملة في الشيخ عثمان تسمّت بأسماء المناطق التي انحدر منها الساكنون، مثل حافة "القرَّيشة" وحافة "دُبَع"، في الحجرية.
العديد من الشخصيات الحضرمية المرتبطة بالقضاء والحكم استقرت في صنعاء وتعز وإب وجبلة والحديدة وذمار والبيضاء، وتزاوجت، وصارت جزءًا من النسيج المجتمعي في هذه المناطق، وتوارث أبناؤها مناصب عليا في الدولة كحكام وقضاة، ويقفز إلى الذهن ألقاب عوائل باعلوي والحبشي وباسلامة والبار والحضرمي وبن عبيدالله والهدَّار وعقيل، وإن عديد تجار حضارمة استقروا في الحديدة والمخا وصنعاء، ونمت تجارتهم، وصاروا مع الوقت جزءًا أصيلًا من بنية المجتمع التهامي، وبيوتات تجارية معروفة، ومنها: بيت شماخ وبامشموس وباعبيد وباشنفر وبامسلم وباجرش والسقاف وغيرها.
ومثلما استقرت بعض الأسر الحضرمية في مناطق الشمال اليمني، استوطنت أيضًا الكثير منها في مدينة عدن ومدن لحج وأبين، ومن هذه الأسر: آل باحميش، آل العيدروس، آل باهارون، آل باذيب، آل باخبيرة، آل العمودي، آل باعبيد، آل باقطيان، آل باصهي، آل بامدهف، آل باهيصمي، آل باطويل، آل بلفقيه، آل المحضار، آل العطاس، آل بازرعة، آل باسودان، آل باوزير، وغيرها وغيرها.
قبل منتصف الأربعينيات بقليل (صيف 1944)، بدأ توافد الكثير من المعارضين السياسيين للإمام يحيى وولده أحمد، إلى مدينة عدن، وفي سنوات قليلة استنهضوا الوعي السياسي المناهض لحكم الأئمة في مناطق الداخل أولًا من خلال الكتابة الصحافية في "فتاة الجزيرة" (أنموذج مطيع دماج)، أو بواسطة أدبيات الجمعية اليمانية الكبرى وحزب الأحرار ("صوت اليمن" التي أصدرها الأستاذ النعمان ورفيقه القاضي الزبيري).
بعد فشل حركة 48 في صنعاء، هرب إلى عدن مجموعة أخرى من السياسيين، وبدأوا يعملون في مهن التعليم في الأندية والاتحادات التي أنشأها الوافدون من مناطق الداخل (أنموذج علي عبدالعزيز نصر وقاسم غالب وأحمد حسين المروني والقاضي الغرباني)، وصاروا فاعلين ومؤثرين ليس في المشهد السياسي فحسب، ولكن في المشهد الثقافي، وجزءًا حيويًا من بنية الاتحاد اليمني الذي تشكّل على أنقاض حزب الأحرار الدستوري، الذي سحبت السلطات الاستعمارية ترخيصه بضغوط من الإمام الجديد أحمد بن حميد الدين الذي خلَف والده الإمام يحيى الذي قُتل في صنعاء في فبراير 1948م، وكان معظم المنتمين للهيئة الإدارية للاتحاد الجديد من التجار اليمنيين في المدينة، وعلى رأسهم التاجر الوطني عبدالقادر أحمد علوان الذي تسلَّم الرئاسة خلفًا للشيخ عبدالله علي الحكيمي، بعد وفاته المريبة بعد فترة وجيزة من خروجه من سجن السلطة الاستعمارية في عدن، في العام 1953م.
مع بداية النهوض التجاري والمالي في مدينة عدن في عقد الخمسينبات، عادت بعض رؤوس الأموال اليمنية المهاجرة من شرق إفريقيا ووسطها، ومن جنوب شرق آسيا، لتستثمر في المدينة الصاعدة، التي صارت مركزًا حيويًا للقاعدة البريطانية المتقدّمة في المنطقة، بعد مغادرة القوات البريطانية الأراضي المصرية في العام 1954م، وتقلّص نفوذها في إيران بعد ثورة الزعيم محمد مصدَّق التي قامت بتأميم شركة النفط الإنجليزية في العام 1951م.
برزت وقتها بيوتات تجارية في المدينة، استفادت من جملة التحولات الاقتصادية والمالية، فقفزت إلى الواجهة شركات السفاري وهائل سعيد والجبلي وأولاد المطهر وجمعان وعذبان والوجيه، وغيرها من الداخل اليمني، التي كان لها لاحقًا إسهامها الكبير في عمليات التحول الاقتصادي والتجاري التي شهدتها البلاد بعد ثورة سبتمبر 1962.
(2)
حين ضيَّق الإنجليز الخناق على الصحفيين والسياسيين والمعارضين القبليين، نزح العديد منهم إلى عاصمة الإمام أحمد (مدينة تعز)، ومنهم الأستاذ عبدالله عبدالرزاق باذيب الذي أبعدته سلطة الاحتلال عن عدن، بعد سنوات قليلة من واقعة المحاكمة الشهيرة، التي اتهم فيها بنشر الكراهية بعد نشره موضوع "المسيح الجديد الذي يتكلم الإنجليزية"، وفيها أصدر صحيفة "الطليعة" في 1959م، في العام نفسه الذي وصل فيه إلى تعز العديد من الطلاب المبعدين من مصر (الجمهورية العربية المتحدة)، بسبب نشاطهم السياسي، ومن ضمنهم مجموعة من الطلاب الجنوبيين، الذين أبعدوا بحجة انتماءاتهم السياسية لليسار، منهم: أبو بكر السقاف وعمر الجاوي ومحمد جعفر زين وخالد فضل منصور وعبدالله حسن العالم، إلى جانب محمد أحمد عبدالولي وآخرين، قبل أن يعاد ابتعاثهم مرة أخرى للدراسة في دول اشتراكية، مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا، على حساب حكومة الإمام.
في تناولي لسيرة الراحل عمر الجاوي، أشرت إلى أنه وأثناء وجوده في مدينة تعز، في العام 1959م، عمل محررًا في صحيفة "الطليعة"، التي أصدرها باذيب، قبل أن يسافر إلى موسكو، ويتخصص في الصحافة، ويعود منها إلى تعز في العام 1963م، لإسناد ثورة سبتمبر من خلال عمله في المركز الحربي، مترجمًا للخبراء السوفييت، وفي فترة حصار صنعاء أواخر العام 1967م، كان الجاوي أحد زعماء المقاومة الشعبية لفك الحصار، وهو صاحب شعار "الجمهورية أو الموت".
وفي الفترة ذاتها، أو قبلها بقليل، استقرت في تعز العديد من الأسر اليافعية المعروفة، بعد أن تعارضت مواقفها مع مواقف الاحتلال الإنجليزي، منها أفراد من أسرة آل هرهرة، وأفراد من أسرة المفلحي، الذين صاروا جزءًا مهمًا من نسيج مجتمع المدينة الصاعدة، التي صارت هي الأخرى قِبلة لليمنيين طيلة عقدي الستينيات والسبعينيات، قبل أن تغرقها موجات الردة الظلامية في بحور العتمة اللزجة.
كان سبقهم إلى تعز مبعدًا من عدن محمد عبده نعمان الحكيمي، الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة -تأسست بعدن في منتصف الخمسينيات، من مجموعة من النقابات العمالية لمناهضة السياسات التمييزية لسلطات الاحتلال- وقد قام في تلك الفترة بالتواصل مع معظمهم للتنسيق في تشكيل جبهة للكفاح المسلح ضد الاستعمار، منطلقًا من مبدأ التحالف مع كل شخص يرغب بمقارعة الاستعمار مهما كان جذره الطبقي وانتماؤه السياسي، وهو الأمر الذي كان يرفضه باذيب بشدة.
وقبل الجميع، وتحديدًا في العام 1952م، هرب إلى تعز سلطان لحج فضل عبدالكريم، مع مجموعة من أنصاره ومقربيه، بعد حادثة التصفيات المشهورة في الحوطة.
في فترة الكفاح المسلح بقي الفدائيون وقادة العمل السياسي في الجبهة القومية وجبهة التحرير، يتنقلون بين تعز وعدن، وهذه الأخيرة كان لها مكتب مهم في مدينة تعز تشرف عليه الأجهزة المصرية.. والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل عقدت مؤتمرها الثاني في مدينة جبلة، في 1966م، وقيادات سياسية محسوبة على الجبهتين تولت مواقع وزارية في حكومات الجمهورية العربية اليمنية قبل الاستقلال وما بعده، كما سنشير لاحقًا.
ودمج الجبهتين القسري، الذي تم في 13 يناير 1966م، كان في مدينة تعز، برعاية مصرية، وهو الدمج الذي رفضته الكثير من قيادات الجبهة القومية، وأفضى إلى دوامة من النزاع المسلح في مدينة عدن لاحقًا بين أنصار الجبهتين.
بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967، وتاليًا أحداث أغسطس 1968، نزح المئات من المنشغلين بالشأن العام والعسكريين المستبعدين من وظائفهم والملاحقين من صنعاء وتعز والحديدة، إلى عدن، وشغل بعضهم مواقع سياسية في تكوينات السلطة الجديدة، وبالمقابل بدأت موجات نزوح جديدة للقيادات السياسية والعسكرية إلى مدن الشمال، بعد ما عُرف بالخطوة التصحيحية في 22 يونيو 1969م.
في فترة النزاع بين الشطرين طيلة حقبة السبعينيات -أفضت إلى حربين طاحنتين في 1972و1979 بين الإخوة- نشطت وبقسوة الأجهزة الأمنية في الشطرين تجاه معارضي سلطتهما، فكان فرار التقدميين جنوبًا والرجعيين شمالًا، على حد وصف الساخر الكبير فضل النقيب، في روايته عن عودة الشاعر الجرادة إلى عدن بدون رفيقيه محمود الحاج وفضل النقيب، بعد صعودهم إلى صنعاء ضمن وفد أدبي، وحين سئل الجرادة عن عودته وحيدًا إلى عدن، قال قولته المشهورة "التقدميون تقدموا والرجعيون رجعوا"، على اعتبار أنه شاعر تقليدي ويوصف بالرجعي، وإن مرافقيه كانا من الأدباء الشبان التقدميين حينها.
لعب اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، الذي تأسس موحدًا في أكتوبر 1970م، في عدن، دورًا مهمًا في توفير الحماية الكبيرة لكثير من الأدباء الذين تعرضوا لمضايقات، وكان يسهِّل انتقالاتهم واستقرارهم في الوجهة التي يرغبون الإقامة فيها في أي من مدن الشطرين، ولم أزل أتذكر الشاعرين الجليلين عبدالله هادي سبيت والأمير عبدالحميد عبدالكريم، في فترة من فترات استقرارهما الطويل في مدينة تعز، حيث كان الأول جارًا لعمي، والثاني كنت ألتقيه في معمل للتصوير في عقبة شارع جمال، ولم تزل ببالي الصورة المرتسمة للراحل حسين عثمان عشال، قائد الجيش الجنوبي بعد الاستقلال، الذي استقر في الحارة ذاتها التي كنت أسكن فيها، وتزاملت مع بعض أبنائه، ومنهم البرلماني علي عشال.
بعد أحداث الحُجرية في مايو من العام 1978م، والمحاولة الانقلابية الناصرية في أكتوبر من العام ذاته، هرب إلى عدن المئات من العسكريين والمدنيين المناهضين لحكم الغشمي وصالح، وصار أكثرهم ضمن التشكيلات العسكرية للجبهة الوطنية الديمقراطية التي تشكّلت من العسكريين الذين تعرضوا للفصل والمطاردة طيلة فترة السبعينيات.
تحصل الكثير من المغادرين جنوبًا، وخصوصًا الشبان منهم، على منح دراسية في المعاهد والأكاديميات والجامعات في دول المعسكر الاشتراكي، على حساب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبالمقابل تحصل المغادرون شمالًا على هويات وجوازات سفر تخص مواطني الجمهورية العربية اليمنية، مكَّنتهم من السفر إلى دول الخليج والسعودية، حين كانت امتيازات مثل هذه الهوية كبيرة.
طيلة فترة التشطير وقبلها، تولى العديد من رجال السياسة في الشطرين مواقع سيادية ووزارية متقدمة في كلا الحكومتين، باعتبارهم يمنيين، وإن كانت البواعث والمشغلات السياسية في فترة الصراع قد لعبت دورًا حيويًا في مثل هذه التعيينات، فجنوبًا وصل عبدالفتاح إسماعيل إلى موقع رئيس الدولة، وأمسك محمد سعيد عبدالله حاجب (محسن الشرجبي) بجهاز أمن الدولة، وتولى عبدالله الخامري وزارة الإعلام، ومحمود عبدالله عشيش وزارة المالية، وعبدالعزيز عبدالولي وزارة الصناعة، والدكتور سعيد شرف وزارة الصحة، وعبدالعزيز الدالي وزارة الخارجية، وعبدالباري قاسم وزارة التربية والتعليم، ومصطفى عبدالخالق وزارة العدل، وراشد محمد ثابت وزارة الثقافة، وعبدالغني عبدالقادر وزارة الصناعة، ومحمود النجاشي وزارة السياحة، وعبدالواسع سلام وزارة العدل، وأحمد مقبل الشلالي وزارة الزراعة، وعثمان عبدالجبار راشد وزارة القوى العاملة، وعبدالله محمد عثمان وزارة الصناعة، وغيرهم.
وشمالًا تولى قحطان محمد الشعبي موقع وزير شؤون الجنوب اليمني المحتل في واحدة من حكومات سبتمبر الباكرة، وحسين علي الحبيشي رئيسًا للمكتب القانوني، وعبدالله عبدالمجيد الأصنج وزيرًا للخارجية، ومحمد سالم باسندوة وزيرًا للشؤون الاجتماعية والإعلام، وسالم محمد السقاف نائب رئيس مكتب الرئاسة، والدكتور يحيى الشعيبي نائب رئيس الجامعة، وغيرهم من الكوادر الذين تولوا مواقع إدارية مهمة في كثير من مفاصل الدولة المدنية والأمنية.
أكبر موجة نزوح إلى الشمال كانت مطلع العام 1986م، بعد أحداث يناير المشؤومة، إذ استقبلت صنعاء والمدن الأخرى ألوف العسكريين والمدنيين المحسوبين على الطرف المنهزم في الأحداث (تكتل الرئيس علي ناصر محمد)، وقد لعبت النتائج المزلزلة لهذه الأحداث دورًا مهمًا في التسريع بإعلان دولة الوحدة في مايو 1990م، التي بدورها تعرضت بعد أربعة أعوام من قيامها لأكبر انتكاسة بسبب حرب صيف 1994م، واجتياح الجنوب، وتجريف هويته ومكتسباته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بواسطة التحالف العسكري الديني القبلي في صنعاء، فتحولت مع مرور الوقت إلى مظلومية وطنية، تعاملت معها سلطة صالح بخفة وتعالٍ، لتقود في نهاية الأمر إلى إفراز تيار قوي مناهض للوحدة، تغذَّي في بعض جوانبه على خطاب الكراهية الذي أنتجته الأجهزة لتأجيج صراع "جهوي/ مناطقي" لم يخلُ من عنصرية فجة.
في الوقت الذي يتناقص فيه الجنوبيون في صنعاء، حسب شهادة وزير جنوبي سابق في حكومة الحوثيين، بسبب ظرف الحرب وتبدلات السياسة، صارت عدن وبقية المحافظات الجنوبية مكتظة بعشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين المحسوبين على محافظات الشمال، الذين نزحوا إليها بسبب التعسفات الكبيرة والتضييق الذي تمارسه سلطة الحوثيين عليهم، إلى جانب الظروف المعيشية الصعبة الناتجة عن احتكار الأعمال وقطع المرتبات واستمرار الحرب التي لعبت هي الأخرى أدوارًا فاعلة في هذا النزوح.
إنه اليمن الكبير الذي يلبسنا مثل جلد، ومهما تكالبت عليه الظروف، وتسلّط عليه الصغار والمأجورون، سنكتشف أنه حضن أم دافئ حنون، مهما هربنا منه نعود إليه طواعية لنستكين.