صنعاء 19C امطار خفيفة

الثروة واللاجدوى: استثمارات الخليج في الخارج وتجاهل الداخل العربي

الثروة واللاجدوى: استثمارات الخليج في الخارج وتجاهل الداخل العربي
ترامب مع قادة مجلس التعاون الخليجي (شبكات تواصل)

في عالم يتجه بسرعة نحو التكتلات الإقليمية وصناعة النفوذ عبر الاقتصاد، تبرز مفارقة صارخة في سياسات بعض الدول الخليجية، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، التي تضخ استثمارات هائلة في الاقتصاد الأميركي، في وقت تتصاعد فيه النزعات الحمائية والمصالح الأحادية في العلاقات الدولية.

الإمارات تعتزم استثمار 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة، والسعودية أعلنت نيتها رفع استثماراتها هناك إلى تريليون دولار، فيما قدمت قطر طائرة فاخرة بقيمة 400 مليون دولار للرئيس الأميركي دونالد ترامب. كل ذلك يُضَخُّ في بلد هو الأغنى عالميًّا، لا يفتقر إلى بنية تحتية أو استقرار مالي، بل يمتلك أعتى مؤسسات الاقتصاد العالمي.

هذه الأرقام ليست جديدة تمامًا، لكنها عادت إلى الواجهة بقوة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. إذ تعود جذورها إلى ولايته الأولى (2017–2021)، حين شهدت العلاقة بينه وبين بعض العواصم الخليجية اندفاعًا غير مسبوق، سواء عبر صفقات تسليح ضخمة أو استثمارات بمئات المليارات، أو قنوات شخصية أغفلت المؤسسات الأميركية التقليدية.

وبلغ هذا التوجه ذروته في أعقاب تداعيات اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018، وهي الجريمة التي تحوّلت، بحسب ما كشفه الصحفي الأميركي بوب وودوارد، إلى ورقة ضغط استغلها ترامب ضد ولي العهد محمد بن سلمان، حين قال: “لقد أنقذت مؤخرته (وهو 815 539760 1)”. لم يكن صمت البيت الأبيض آنذاك بلا مقابل، بل في سياق علاقة أقرب إلى الابتزاز منها إلى شراكة متكافئة. ومع عودة ترامب اليوم لا تبدو هذه المعادلة مرشحة للتغير، بل تتجه نحو مزيد من التكريس، في ظل فراغ عربي استراتيجي طويل الأمد.

ليست هذه المليارات تُرَكات خاصة بل ثروات شعوب. فبأي شرعية تُمنح طائرة فاخرة لرئيس أجنبي؟ وبأي حق تُدار الأموال العامة وكأنها أموال عائلية؟ والأدهى أن أقوى دولة في العالم تقبل هدية بمئات الملايين من دولة صغيرة دون أن يُحرّك ذلك ساكنًا في معايير الشفافية أو التوازن أو حتى الكرامة السياسية.

المفارقة أن هذه الأموال لم تُوَجَّه لتعزيز استقرار الداخل العربي، بل أُنفقت في الخارج بينما بلدان عربية كفلسطين واليمن تغرق في الفوضى، والدمار، والبؤس. اليمن، الجار الأقرب جغرافيًا وثقافيًّا، بلد غني بالموارد والإمكانيات، كان قادرًا على النهوض بمقدراته؛ لولا أن تحول إلى ساحة مفتوحة لصراعات إقليمية، بفعل سياسات عبثية كانت السعودية والإمارات جزءًا فاعلًا فيها، بل وعائقًا مباشرًا أمام أي مشروع وطني تنموي.

فالسعودية، منذ اندلاع الثورة اليمنية، اتبعت سياسة تقوم على شراء الولاءات، لا على دعم المؤسسات، محوّلة اليمن إلى ساحة تدور في فلكها، لا شريكًا في بناء إقليمي متكافئ. أما الإمارات، فذهبت إلى ما هو أبعد، بتبنيها سياسات أكثر تدخلًا عبر تمويل ميليشيات محلية خارجة عن الدولة، خدمة لمصالحها في الموانئ والجزر الاستراتيجية. كل ذلك أدى إلى تفكيك وحدة اليمن وإطالة أمد الفوضى، وتعميق مأساة شعبه.

ومع ذلك، لا يمكن إعفاء الداخل اليمني من مسؤوليته. فقد أسهم نظام علي عبد الله صالح في تحويل البلاد إلى ملكية خاصة لعقود، وأفرغ مؤسسات الدولة من مضمونها. وبعده، لعبت النخب السياسية والقبلية دورًا كارثيًا في إضعاف المشروع الوطني، وارتهنت لمصالح خارجية، ففقدت البلاد مناعتها السيادية.

وفي نفس الوقت، تتحمل جماعة الحوثي مسؤولية كبيرة في تعميق الانهيار، حين انقلبت على مخرجات الحوار الوطني، وفرضت سلطتها بقوة السلاح، وجعلت من اليمن منصة لصراع إقليمي مرير. فهي لا تنفذ مشروعًا وطنيًا مستقلًا، بل تدين بالولاء لإيران، وتعمل وفق أجندتها، ما يحمل اليمن عبئًا إضافيًا، ويجعله ساحة لتصفية حسابات خصوم طهران على أرضه.

وعلى وقع هجمات الحوثيين على الملاحة الدولية، دخلت الولايات المتحدة بثقلها العسكري تحت شعار “حماية التجارة العالمية”، وتبعتها إسرائيل، التي استغلت الصواريخ الحوثية مبررًا لتوسيع تدخلها واستهداف الموانئ اليمنية والبُنى التحتية الساحلية. ولم تفرّق الغارات بين المنشآت العسكرية والمدنية، بل طالت المصانع والمرافئ، وأغلقت مصادر رزق لعشرات الآلاف. وتسببت في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، جلّهم من المدنيين، في سلسلة من الهجمات التي لم تراعِ الحد الأدنى من الاعتبارات الإنسانية.

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل التنازلات السياسية التي قدمتها بعض الدول العربية الفقيرة، حين منحت واشنطن “تطبيعًا مجانيًا” مع إسرائيل، دون صفقة عادلة، ولا مقابل يُذكَر. في سوريا مثلًا، شهدت الساحة تحولات مذهلة في ولاءات بعض قادة المعارضة من تنظيمات متطرفة كداعش والقاعدة، إلى إعادة توظيفهم في مشاريع إقليمية تديرها عواصم خارجية، على رأسها واشنطن وتل أبيب. وقد استثمر ترامب هذا النمط من التفكك ليعزز موقعه كرجل صفقات، لا كرئيس لدولة تفترض فيها قيادة أخلاقية للعالم.

وبعيدًا عن اليمن وسوريا وفلسطين، فإن دولًا عربية أخرى مثل السودان والعراق، وتونس، وحتى سوريا ما بعد الحرب، لا تزال تملك مقومات ضخمة لمشاريع تنمية وإعادة إعمار. غير أن غياب الرؤية العربية الجامعة، وافتقاد التخطيط بعيد المدى، جعلاها مجرد ساحات رخوة للاختراق، بدلًا من أن تكون عُمقًا استراتيجيًا متينًا.

إن الرهان الدائم على الحماية الأميركية، والسعي المحموم للتقرب من القوة العظمى، لم ولن يُنتِج أمنًا مستدامًا ولا مكانة مستقلة. فلا النهضة تُشترى، ولا السيادة نستورِد، ولا الاستقرار يُفرَض من الخارج.

لقد آن الأوان لبوصلة جديدة... بوصلة تنتمي إلى هذه الأرض، وتحسب مصالحها بلغة الشعوب لا لغة العقود. فالتغيير، في نهاية المطاف، لن يُملى من الخارج، ولن يتحقق عبر التحالفات العابرة أو الصفقات المؤقتة. إنما يبدأ حين تدرك الشعوب أن استقرارها لا يصنعه الاصطفاف خلف الطوائف أو الولاءات الضيقة، بل بناء دولة عادلة تتسع للجميع، وتحفظ كرامتهم.
وحين يحدث ذلك، ربما تبدأ هذه المنطقة أخيرًا بالخروج من دوامة التبعية والتفكك، نحو أفق أكثر اتزانًا وإنسانية.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً