أحمد جابر عفيف.. أستاذ الوفاء والعبر

أحمد جابر عفيف.. أستاذ الوفاء والعبر

* محمد بن حسن السقاف
الأستاذ أحمد جابر عفيف... كما يحب أن يقال له، وهو هكذا بالنسبة لعموم اليمن، أما بالنسبة لي فهو علاوة على ذلك بمثابة أب حنون ومتتبع وناصح وموجه ملئت جوارحه ووجدانه بسجية الوفاء والود لصديقه الحميم والدي ولنا نحن أبناءه. عرفت الأستاذ بأذني وقلبي قبل أن أراه بأعوام طويلة، لمتانة رابطته بوالدي حسن بن عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف (رائد الشعر الحديث في الوطن العربي، وصاحب قصيدة درب السيف وديوان عبر وعبرات)، والأستاذ إبراهيم الحضراني والأستاذ أحمد محمد الشامي والأستاذ صالح عباس صداقة حميمة لا أبالغ إن وصفتها بالمثالية في ذلك العصر، أما في عرف صداقة اليوم فهي أشبه بالأساطير. رسخت هذه الصداقة في أعماقهم جميعا رسوخ الجبال، وتفيأنا نحن أبناءهم ظلالها الوارفة لأنها شكلت حيزاً كبيراً من ذاكرة وضمير والدي رحمه الله، حيث تجسدت فيها بوضوح صور رائعة للأخوة والوفاء، وقد فاضت علينا بكثير من الحب والعاطفة الأبوية الصادقة. ومنذ ذلك العهد كان والدي رحمه الله يستعذب الحديث عن هذه العلاقة بغبطة وسعادة، وكنا نلتف حوله في مسامرنا ومجالسنا ونطلب منه مزيدا من التحدث عن هذه الحقبة الزمنية ورجالها التي كنا ننبهر بها وبهم أكثر من متعة والدي نفسه عند الحديث عنها. ولاحقاً أسهمت هذه الأحاديث والذكريات التي كان والدي رحمه الله ينثرها علينا وكأنها درر أدبية ودروس أخلاقية تستحق أن تدون لما لها من أثر جلي وتصوير رائع عن واقعنا والمقارنة المتباينة بين الأمس واليوم في كل مناحي حياتنا وأدبياتنا وثقافتنا وسلوكياتنا الشخصية والاجتماعية.
في فترة السبعينيات من القرن المنصرم، وبين الحديدة وتعز ثم صنعاء، وعلى هذه الأثافي نضجت تلك الصداقة الوطنية والأدبية ثم الأسرية المثلى، وانبثقت منها سلوكياتهم المتناغمة مع فطرتهم النقية والرفيعة مدرسة، ومنها مدارس متعددة في كل جانب من جوانب الحياة، سواء في الجانب الأخلاقي أو الوطني أو الأدبي أو التربوي أو السلوكيات الشخصية أو التعامل مع الآخرين. وعلى الرغم من أنني لم أقف شخصياً على شيء من تباين الأفكار بينهم، إلا أن ذلك إن وجد لم يلامس حتى مسام ذلك الجسد الطاهر المتين القوي والمحصن بالإيمان ضد صغائر الأمور، أما كبارها فهم مجمعون فيها بلا أدنى شك أو وسواس.
وبعد نحو 3 عقود من مرحلة الطفولة وتراكم الذاكرة بطيب الذكرى، فاضت بي العاطفة والشوق، وسعيت بلهفة المشتاق، والتقيت لأول مرة بسيدي وأستاذي الوالد أحمد جابر عفيف. ولا تسأل عن وصف هذا اللقاء وحميميته ومدته التي تجاوزت الساعات الطوال، وتخلله غداء الواحدة ظهراً، وما دار فيه، فلهفتي كانت كبيرة في محاولة مني لأروي ظمأ السنين وربط الخيال بالواقع والأمس باليوم والأب بأحب أصدقائه. وهنا ازداد إعجابي بأبي رحمه الله، وترحمت عليه أضعاف ما تعودت، فقد أكبرت في والدي رحمه الله كيفية اختياره لصديقه وهو نعم الصديق، والصديق في حقيقة الأمر مرآة حقيقية لجوهره وضميره، فالإنسان لم يكن له واقع الأمر يد في اختيار والديه أو خلقته أو حتى اسمه، ولكنه يتحمل كامل المسؤولية والتبعات في اختيار صديقه. وكم هو مؤسف أن المفهوم الحقيقي للصداقة كما يجب لم يعد له وجود في حياتنا اليوم، أو حتى في خلد أحد منا إلا في ندرة أو أقل من ذلك، فنحن في عصر الماديات والمقايضات هذا بذا وإلا فلا.
الأستاذ أحمد جابر عفيف رحمه الله ليس بحاجة إلى شهادة من أحد، فسيرته الذاتية حافلة بالعطاء والإنجازات والعصامية وقوة الإرادة ومواجهة التحديات والتفرد، وهو صاحب سبق في كثير من ضروب الشرف والرفعة. وفوق هذا وذاك فهو صاحب حس وطني صادق يعد حجر الزاوية في منطلق حياته، وسمو خلقي رفيع، وصاحب حكمة منشودة وأب مثالي يغبط على كل ذلك. إنه من جيل كان غذاؤه الفكر والروح أهم من غذاء البطون والشهوات، وهذا ما يؤكد أن التخمة المتفشية بيننا تورث البلادة وموت القلوب.
رحم الله من ذكرنا ومن نسينا وجميع موتى المسلمين، وجزاك الله كل خير، ورحمك الله رحمة واسعة أيها الأب والمربي والأستاذ والحكيم سيدي أحمد جابر عفيف. ونسأل الله أن نلتقي بكم عند حوض صاحب الشفاعة صلى الله عليه وآله وسلم، لننعم بشفاعته جميعاً.. آمين. وألهمنا جميعاً وذويه الصبر والسلوان، وخلفه الله بخلف صالح إن شاء الله.
*  رئيس مركز ابن عبيدالله السقاف لخدمة التراث والمجتمع