تكتيكات سوق البرم

أدلكم سادتي أعزائي القراء على سر انزعاجي الشديد من تكتيكات سعيد اللوك، مالك وصاحب محلات الخضار والفواكه التي أتعامل معها كما يتعامل معها غيري الكثير من أبناء الربع الحي الوطن طيلة فترة زمنية تربو على عشر من السنوات وأكثر، ودومًا نراه كما يبدو مشغولًا منشغلًا بترتيب مفرشه، موحيًا بأن ثمة تجديدًا وتغييرًا سيمس محله العامر، وسوف يشهد الربع تطويرًا يتمثل باستيعاب مقترحات وملاحظات الناس بحيث يلمسون معها معالم التجديد والترميم والإضافة والتعديل تسري على قدم وساق، وبما يتفق ورغبات الزبائن والجمهور الكريم، لأن رغباتهم وتلبيتها هي أساس التجارة والمتاجرة، وشرط للبقاء في السوق التي تعبر عن واقع وحياة الناس. هكذا دومًا كان يمطمط مشافره بالكلام المعسول ولا شيء سواه.

 

هكذا كان ومازال يسرف يغدق يطلق الوعود البراقة، مؤكدًا أنه قد نسف كل أساليب عمله السابقات، وأصبح يمتلك منظورًا استراتيجيًا يلبي طموحات وطلبات ورغبات جمهور المتعاملين معه، وهي طلبات كثيرة ومتباينة، لكنه وقد اختبر الدنيا والسوق أدرك أن الوضع لا يحتمل التأخير والمماطلة، إذ لا بد من التغيير، وأن وقت التغيير قد حان، ولا مناص من الاستجابة لرغبات الناس، وتلك هي أيضًا رغبته ورغبة العاملين معه.. قلنا له مستبشرين فرجًا قريبًا... سر على بركة الله، ونحن لك من المؤيدين والداعمين، ولن نلجأ لمحلات أخرى تتنافس معك.. ابتسم وولى مسرعًا نحو هاتفه الذي ظل يرن بإلحاح... تركنا فجأة مذهولين، وغادرنا دون تحية وسلام... قلنا لعل هاتفًا من جهة ما ذات شأن أعلى وأكثر فائدة منا وإزعاجنا، فهرول إليها طائرًا، وتركنا حيارى نقضم الأظافر بين عماله، نتجادل معهم، لكن دون جدوى، فلا لهم في العير ولا في النفير، مهما وجهنا لهم كلامًا وأسئلة، فلن نتلقى منهم أي رد سوى الصمت المطبق، لنعود أدراجنا كما أتينا لمحلات سعيد اللوك، وغادرناها نادمين وبخفي حنين... نضرب أخماسًا في أسداس، فلا جديد سمعنا، ولا رأينا ما يثلج الصدر، عدا الوعود البراقة، لكنها وعود تطير في الهواء وأمور أخرى من كلام منمق وحركات تثير الحيرة والارتباك، وتضع صدقية وعوده موضع تشكيك، ومعها علامات استفهام كبرى، إذ لا جديد سوى تكرار نفس الوعود، نفس الكلام المنمق المعسول، وعلى أرض الواقع نجد فقط أصفارًا على الشمال، وهو أمر يؤكد بالملموس أن سعيد اللوك مثله مثل غيره من أباطرة الأسواق، قد استوعبوا جيدًا كل حكم السيد ميكيافيللي بالاعتماد والاستعانة بمن يجيدون النفاق واللعب على كل الحبال، خدمة لأمير السوق طالما يدفع المعلوم، وهنا الكارثة التي تحكم وتتحكم بأمور وأحوال أسواق السياسة والتجارة في بلادنا...

 

هنا وجب القول إن أطرافًا أخرى من باعة السوق وسدنته قد انتهجوا نفس نهجه وأسلوبه في المراوغة والنفاق، وكل ما يأتي منهم مجرد وعود زائفة براقة، لكنهم حقيقة مثل زعيهم سعيد اللوك الذي علمهم السحر، يختفون، ثم فجأة يظهرون، يغدقون ويكررون وعودًا تطير في الهواء.

 

ومع كثرة ما أبداه جمهور المتعاملين من تذمر وقلق لاحظنا معه نفسًا بالرفض، وقلنا أبشروا خيرًا، وشعرنا من كثرة الهمهمات بأن تحركًا يشي بأن شيئًا ما سيحصل... كانت توقعاتنا كبيرة، فقد مللنا الوعود، ثم أتت المفاجأة ومن العيار الثقيل.. نعم حصل التغيير، وأعلن سعيد اللوك أن وقت التغيير قد حان... وتوقعنا الكثير، لكن كانت خيبتنا كبيرة، فلا تغيير ولا يحزنون. ما جرى ليس أكثر من امتصاص نقمة... ليس أكثر من طلاء واجهة محلاته بطلاء فاقع الألوان قد عرفها وخبرها وملها الجمهور، تمامًا مثل الدهان الكاذب لم يعد مرغوبًا، لا يتماشى ولا يلبي رغبات وطموحات الناس وجمهرة المتعاملين مع سعيد اللوك ومحلاته. والكارثة أن سعيد اللوك أصر بعناد، وأعاد ترتيب محلاته، معلنا التغيير بصوت عالٍ، وبدل وغير الرفوف واستبدل مواقع العاملين، وأعاد تسميتهم وألقابهم ودرجاتهم، لكن اختياره كان من ذات الأصناف ممن قد أكل الدهر منها وشرب، أكان من أتى به رئيسًا أو مشرفًا أو محاسبًا أو مسؤول مخازن وتوزيع، كلهم في الهواء سوى سوى.. كما أنه أعاد تغيير أسلوب العرض بشكل جذاب براق، رافعًا راية كبرى تقول: معكم نقوم بالتغيير... نحو الأفضل... نحن لأجلكم.

 

لكن يا للحسرة، ما وجدناه قد مثل صدمة لنا... نفس الوجوه الكالحة... نفس أنواع الفاكهة... نفس الأنواع أنواع الخضار والفاكهة... فقط تم تبديل أماكن عرضها سواء كانت فاكهة أم خضارًا.

 

بات الموز والمانجو والعنبة والحبحب والبطيخ معروضًا بطريقة مغرية مع غيرها من باقي المعروضات التي تحتل واجهة المحلات مذيلة بعنوان براق بارز، وكتب عليها عبارة تقول: شجعوا الإنتاج الوطني.

 

إلى جانب أن قريحة سعيد اللوك وفطنته لم تخوناه، إذ قام بعرض أنواع أخرى مختلفة من بضائع شتى بجانب الخضار، معلنا تخفيضات كما قال إكرامًا لشهر رمضان المبارك. هكذا دواليك أوقعنا زمننا ذو الوجه التعيس طيلة عشر من السنوات وأكثر، مع لوك الشيخ سعيد اللوك، صاحب الأسطوانة المشروخة... نسمع جعجعة ولا نرى طحينًا، نسمع وعودًا بأن يوم غد سيكون يومًا أفضل، ويوم غد ستشرق شمس أكثر إشراقًا، ويهطل معها مطر غزير، ومعه ترون في محلاتنا -كما ظل يقول- كل شيء جديد، وبما يلبي ويعكس كل رغاباتكم، رغبات الجمهور الكريم... لكن لا شيء حدث، فلا شيء يأتي من فاقد الشيء... لم يكن الجديد سوى اللف والدوران، وإغداق الوعود وتدوير الزوايا، وبنفس الوجوه داخل نفس الصندقة التي أصابها الصدأ، وأكل منها الدهر وشرب، وما تعرضه من جديد ليس أكثر من أصناف إما قريبة الانتهاء أو تالفة أو منتهية الصلاحية.. أما الشيء المستجد الجديد فقد تمثل بإعادة إحياء الموتى أولًا، وطلاء التوالف ثانيًا.. إلى جانب أن سعيد اللوك ظل يلعب لعبة السوق وفق قوانينه المسيطرة التي صاغها بعون من هنا وهناك، تمكنه من تسيير دفة أموره بالسوق، ولتظل راية سعيد اللوك خفاقة ترفرف ضمن باقي أدواته وطواقمه الخاصة بالداخل والخارج، التي عبرها يظل مسيطرًا على السوق ولاعبًا وحيدًا مدعومًا يلعب على جمهور المتعاملين... وكل مرة يأتيها لابسًا ثوبًا قشيبًا وطواقم خشبية أعيد هيكلتها من جديد ونفخ في روحها مالًا وعطرًا.

 

لك الله يا شيخ سعيد، فأنت حاكم السوق الوحيد، وما هكذا تنظم الأسواق الحرة، ورعى الله زمان شركة النصرة للتجارة الحرة.

 

ولست وحدك اللاعب يا سعيد... هنالك بجانبك.. بجوارك من هو ألعن... إنه صاحب محلات البدر التمام الذي غير وبدل وادعى، وأصبح يقول بأنه يمتلك مفاتيح ومفاهيم الكون كله، وليس فقط مفاتيح سوق الحراج وحده.. ومن أجل ذلك بات يرفع شعارًا كذوبًا:
نحن الأنقى
نحن الأفضل
نحن الأجود
محذرًا بشعار آخر كافة اللاعبين ومن يتلاعب ويلعب معهم كما يقول... أمطري حيث شئت فخراجك عندي...

والله المستعان على ما تفعلون، يا من تدعون ما لا تملكون، وتأتون على الأرض والأسواق أفعالًا تشيب لها قسمات ولدان في المهد يتألمون من كذبكم، وشعب مل ولم يعد يصدق زيف ما ترفعون وما تكتبون على الأرائك من كلام مميت أهلك الحرث والنسل في ما تبقى من يمن كان يومًا يمنًا سعيدًا.