النيروز: الحكاية الكردية التي لم تنتهِ!

"بعد الحربِ
وعلى صهوة غيمةٍ بيضاء
سافرَ لحنٌ وشعرٌ وقصةٌ معاً
لزيارة بُحيرةٍ أرملة
نزلوا بخيوط المطرِ فوقها
تمشَّوا مع الريح حتى جدائلِ البُحيرة
صنع اللحنُ من الحُبِّ سماءً جديدة

صارت القصةُ طائراً بجناحين كبيرين
وطارت في السماء الجديدة
صار الشعر أُفُقاً فتياً
وفي أولِ أيام نوروز
تزوجَ من البُحيرة الأرملة"
الشاعر الكردي الكبير- شيركو بيكيه س

أكراد يحتفلون بعيد النيروز( أروى عثمان)
أكراد يحتفلون بعيد النيروز( أروى عثمان)

تعرفت على الأكراد والقضية الكردية في ثمانيينات القرن العشرين، من خلال الكتب والمجلات، كانت القضية الرئيسية تتمثل في النضال من أجل الحرية والإستقلال، بوجود الوطن الكبير الجامع للأكراد، ولم تغب الصور عن ذهني لفعاليات حزب العمال الكردستاني، وقضية عبدالله أوجلان المغيب في السجون التركية، منذ 1999، ووو.

كنت أيضاً من المتابعين الثقافة الكردية المتمثلة بالموروث الشعبي من الحكايات والأساطير والأزياء التي تشبهنا كثيراً، والأغاني والرقاصات.. الخ، لكني تعرفت عليهم أكثر وعن قرب في ألمانيا، خصوصاً في الملاجيء ولأكثر من ثلاث سنوات.

أذكر في الملجأ الأول- الكامب في "جيسن"، أبريل 2021، مايسمى" العزل الصحي"، وكانت أيام الكورونا، في الغرفة التي تلمنا( أنا ومريم، ومنصور) كانت جدران الغرفة مليئة، بالكتابات والرسومات والخربشات لمن سبقونا في السكن: البيوت، والطيور، ممهورة بأسمائهم- الأكراد-"فلان، من القامشلي"، "عفرين"، الحسكة، ديريك، وكوباني، وكانت عبارة" مريت، من هنا"، وآيات قرآنية، ودعاء فرج الهم"، والحنين الذي لا يخلوا جدار من الكامب حتى الفناء.

فتاتان ترتديان الزي الكردي( اروى عثمان)
فتاتان ترتديان الزي الكردي( اروى عثمان)

في ذلك "الحَجر"، تعرفت على أحدى الشابات الكرديات الأنيقات، كانت ترتدي الزي الكردي" الأخضر"، برفقة زوجها وطفليها، كانوا جيراننا في  نفس الممر الذي نعيش فيه، كنا نتبادل التحيات وأطراف الحديث يومياً، وباعتزاز، كانت تُعرف بنفسها: أنا كردية من سوريا" عين العرب، كوباني"، ثم تسرد الأحداث عن القضية الكردية، وأنها كانت جزء من الآلآف المدافعين عن القضية الأم :" الوطن الكبير الأكراد"، وفي خضم الأحلام، تروي مأساتهم الإنسانية. لقد كوّنا، معاً جورة، وصداقة تلازمنا لأشهر.

ذات يوم من أيام، مدينة " لاوتر باخ"، دعتنا وأسرتها للتجول في الغابة الوسيعة والقريبة من سكننا الجماعي، لقطف ثمار التوت الأسود والأحمر من على أشجارها المشوكة وشرب الماء العذب من الجدول، - للأمانة تعرفت على ثمرة التوت عبرهم، بعد أن كنا نراها في الصور، كنا نمسح التوتة ونأكلها مباشرة، وبكرم تناولني: اطعمي هذه التوتة الناضجة ياخالة. ونحن نمشي ونأكل، قالت: التوت يذكرني ببلادي وناسها، تجر تنهيدات متذكرة الأصدقاء والرفاق الذين فقدتهم في حروب كوباني.

لتمر الأيام والأشهر والسنيين، فرقتنا مدن "الكامبات" و"الهايمات"، وفي إتصال اخبرتني،  عن سكنها الجديد، وطفلها حديث الولادة، سعدت لها،  أعرف معنى أن يكون للمرء بيته الآمن والمستقل، هي حياة جديدة بكل المقاييس، هو الوطن مبنى ومعنى الذي لم نعرفه للأسف في أوطاننا!

**

فتيات كرديات اثناء الاحتفال بعيد النيروز(أروى عثمان)
فتيات كرديات اثناء الاحتفال بعيد النيروز(أروى عثمان)

وأنا أكتب المقالة، تذكرت وهي تحدثني، ذات ربيع مزهر، مؤشرة للأشجار المزهرة بكل الألوان، كم تشبه كوباني وربيعها "النيروزي": خروجنا منها ياخالة، ضرورة وجودية، هروباً من الحرب والتنكيل من قبل الأنظمة العربية والنظام التركي. كم من الأكراد المذرذرون، في العراق، وسوريا، وتركيا، وايران، والآن في أوروبا والعالم، لتنفرج أسارير مصحوباً بالألم، عند تذكرها، بطلهم الجمعي:" عبدالله أوجلان.

**
أسر كردية أخرى تعرفت عليها، وبنفس الحماس النضالي للقضية الكردية، والإقتلاع والبحث عن وطن- المشترك بين جموع اللاجئين من كل الجغرافيا-: الحرب والهروب من الفناء الممنهج، داخل ما يسمى بالوطن" وباكتب اسمك يابلادي عالشمس الما بتغيب"، ثم الهروب بقوارب الموت، حتى الوصول الى المانيا وأوروبا، الحاضنات لهم ككرد، وللقضية الإنسانية لملايين اللاجئيين من كل العالم.

وتوالت الجيرة مع الأكراد من السالمية -كردستان، وتركيا..الخ في مختلف الملاجىء،  يجمعنا المشترك الإنساني، والأجمل كان: عيد النيروز، الذي يصادف 21 مارس من كل عام، في هذه المرة رأيته بأم عيني، في الساحة الكبيرة، بمدينة دار مشتات، 20 مارس 2024، الساحة التي تضم متحف هيسن الأقليمي، والقلعة، والمعبد، ..الخ من معالم المدينة.
ماكنت أقرأه عن الإحتفال بعيد النيروز، وسماع الموسيقى الكردية والرقص، والأساطير والحكايات، والأزياء الشعبية خصوصاً الأزياء النسائية والأوشام، والمصوغات الذهبية والفضية شاهدته بأم عيني في مشهد استعراضي مهيب.

كرنفال عيد النيروز( أروى عثمان)
كرنفال عيد النيروز( أروى عثمان)

كان كرنفالاً ليوم جديد من عام جديد ومتجدد نيروز الربيع الذي يشبه ناسه وجوه مفعمة بالفرح والحياة، مثل وجوه الأطفال وحلم الأماني، نقوش الجمال زركشت  الأيدي والفساتين الموردة بالخيوط الذهبية والفضية،  كرنفال البهجة من الواااان من أشعة الشمس المشرقة التي تتوسط العلم الوطني الكردي، والشيلان والأوشحة وصور الأيقونات النضالية من النساء والرجال مطبوعة على الرايات، مجاميع من كل الأعمار، ما أن تصورهم بوجوههم البشوشة، حتى يستأذونك قبل طرقة الكاميرا: برفع شارات النصر، لحلم يتجدد كل عام ربيعي، بوشم الميثولوجية النيروزية، لـ"كاوا الحداد"، البطل القومي، المحرر للأكراد، مُوقد  النار كرمز للخلاص من الظلم، كما تحكي أساطير التأسيس الكردية، ففي القرن السابع قبل الميلاد، كان الشاب" كاوا"  يعمل حداداً،  قاوم الظلم والقهر للملك الطاغية، الأشوري، "زوهاك/ الضحاك" أي التنينين، الذي كان يطالب الناس باحضار اثنيين من الأطفال لإطعام الثعابين التي تنمو على كتفيه، حارب كاوا ومعه المظلومين، وانتصروا، ثم قام-كاوا- باشعال النار في علو الجبال، ليعلم الناس، بأن الضحاك الظالم قد قُتل وانتهى حكمه، وانتصرت الحرية بالخلاص من الظلم، ليبدأ اليوم النيروزي الجديد، بحضور الربيع في 21 مارس.

**

إمراة كردية(أروى عثمان)
إمراة كردية(أروى عثمان)

لا نستطيع أن نختزل النيروز على أنه عيد ديني فقط، بل هو جامع بين الديني والثقافي، هوية جمعية للأكراد وغيرهم من القوميات الأخرى، نعم ليس فقط كردستان، بل وافغانستان، وأذربيجان، الهند، الطاجيك، كزاخستان، الشيشان، تركمانيا، واوزبكستان، ووو..الخ.

تقول أدبيات الثقافة الكردية، أن اسم النيروز، مشتق من " نو"، وتعني جديد، و" روز" يعني يوم، فتصبح نوروز: اليوم الجديد، وراس السنة في الثقافة القومية للأكراد، والقوميات الأخرى. وقد أدرجت اليونسكو النيروز، في 2009 في قائمة التراث الثقافي غير المادي، كعيد قومي للأكراد في كل العالم.

قبل الأخير:
هل انتهى الظلم المحيق بالأكراد بسقوط التنين- الضحاك في سالف الأزمان؟ من يتتبع تاريخ الأكراد الوجودي، فمازال التنين، أحفاد زوهاك يمارسون الظلم والعدوان، أكان النظام السوري، أو الإيراني، والأنظمة القامعة،  تعنفهم وتجرم لغتهم، وتحرمهم من الحصول على الجنسية، وتمنع الإحتفالات بنيروزهم، لقد كانوا يحتفلون به سراً، ولا يمر نيروز، إلا وغصة في الحلق، قتلاً وسجناً، وطرداً، وتتزامن متواليات القمع البدني، والقمع الرمزي، لما قامت به القوات الأردوجانية، عندما أحتلت مدينة "عفرين"، ليقوموا بتدمير تمثال" كاواه"، وليس بآخر الحرب الأخيرة التي دمرت الجميع بكل اختلافاتهم الثقافية، وتسيد داعش التي أفنت البشر والشجر والحجر، دوماً المليشيات تتناوب على الإفناء!

**
«ياكوردستاني !
أراك من نظرة غروب المساكين
أراك من القمر المنجل المخسوف للفلاحين
ياكوردستاني !
هذا هو الطريق الصاعد لألمي.. اصعد منه
هذا هو سلم القامة المتعبة لقصيدتي
أصعد منه...»
الشاعر الكردي الكبير:"شيركو بيكيه س"، على روحه السلام.