النجمة!

صورة لطفلة يهودية يمنية أثناء قيامها بالعجين
صورة لطفلة يهودية يمنية أثناء قيامها بالعجين (أرشيف حسين العمري)

امرأة ممتلئة، لحيمة كما يقول أهل صنعاء، تتدلى من رقبتها في سلسلةذهبية دقيقة جدًا، نجمة.. كانت المرأة تجلس بجوار أمي في صحن بيتنا الخشبي الكبير في سيداسير لاينس.. تعجن في صحفة كبيرة قدامها عجينًا طريًا للخبز، وأمي تناولها بعض السمن لتزيد به طراوة العجين.. والموفا كان قد أوقد بالحطب.. وأنا أحملق في المرأتين والموفا والعجين، كنت في الرابعة من عمر طفولتي، أو أقل، أو أكثر، لست متأكدًا تمامًا..

ولا أدري اليوم في أي سن يمكن للإنسان أن يتذكر من أحوال طفولته.. أحاول بقدر المستطاع أن أركز.. وأن أضبط الفوكس لأتذكر.. وكان هذا هو كل ما استطعت الوصول إليه في ماضي تلك الطفولة السعيدة جدًا، حتى إن ظنونًا ساورتني حول حقيقة ما كان أو خرافته أو لنقل أسطوريته، لكن هذا هو ما أتذكره الآن بين ضبابية الذكريات وماضيها البعيد البعيد، وليكن الله في العون بقدر الممكن والمستطاع.

كانت المرأة الجالسة للعجن في بيتنا بجانب أمي، يهودية عدنية، والنجمة التي تتدلى من رقبتها كانت نجمة داود، رمز دولة إسرائيل الآن.. والعجين كان للخبز المجهز لعشائنا مما لا يتعارض مع نظام الكوشير اليهودي كما علمت بعد زمن.. ويرجع سبب وجود اليهودية في بيتنا مع ابنها وابنتها إلى نشوب الاضطرابات التي جرت في عدن في ما عرف وقتها بربشة اليهود في عدن، ودخولهم إلى بيتنا له قصة نعرفها ونحن نمشي في الحكاية.

قبل قرابة أسبوع من هذا، خرجت مع أبي من المعسكر للذهاب إلى أسواق كريتر عدن: أيش أخبار عدن يا بن لدهم؟ سأل قائد حرس بوابة المعسكر أبي، فأجابه أبي: يقولون إن واحد يهودي لطم واحد عربي بمكنس! وقامت الربشة على إثر هذا كما قالوا.

في كريتر اتجه أبي وأنا في يده إلى متجر أدلجي باتيل، ليشتري صندوق الطرب وصحون الصوت.. وبسبب حملها الثقيل خرج أبي لإحضار تاكسي للمرة الأولى، فمع أحمالنا لا يليق بنا الرجوع إلى البيت بالباص، كان ذلك قبل أن يملك أبي سيارة خاصة كما جرى بعد ذلك.. قال لي: ابقَ هنا عند دكان أدلجي حتى أرجع بالسيارة.. وانتظرت.. وتأخر قليلًا.. فدفعني فضول الطفولة إلى التجوال قليلًا وأنا في غاية الانبهار بما أرى في أسواق عدن.. ومضيت في تجوالي حتى وصلت إلى ما عرفته بعد ذلك بسوق الطعام.. وتهت في طريقي من شدة الزحام وبلاهتي.. ولم أتبين طريق الرجوع إلى دكان أدلجي.. وبكيت.. بكيت كثيرًا وأنا أصرخ: ياابه.. ياابه حبيبي، وينك ياابه..؟ وينك؟ ثم أفقت مع تجمع الناس حولي، ويد صياد تمسك بيدي، ويقول لجمهرة المتجمعين: سآخذه إلى الشوكي حتى يجيء أبوه.. ومضى يجرني بيدي وأنا أسير خلفه صاغرًا بلا وعي..

ولم أفق إلا على صوت أبي يرتفع بين أصوات الخلق، ويشكر الصياد، وينفحه بعض المال، ويمسك بيدي ويقودني خلفه نحو دكان أدلجي باتيل... أو شاباش.. بهوت بابو، برافو شاباش.. أدلجي يهنئ أبي بسلامة صعلكتي ونجاتي، والتاكسي ينتظر عند الباب، والشاقي يحمل صندوق الطرب والأسطوانات إلى التاكسي، ونركب في طريق عودتنا بعيدًا عن الضجيج والزحام، واليهودي الذي لطم العربي بالمكنس في ربشة اليهود.. ولما استعدت توازني لم تسعني الفرحة بعظمة امتلاكنا أخيرًا صندوق الطرب وصحون الأغاني، هز ماسترس فويس His Masters Voice.

بعد أسبوع من امتلاكنا صندوق الطرب، شرفتنا اليهودية العدنية بالإقامة المؤقتة عندنا بسبب ربشة اليهود، واليهودي الذي لطم العربي بالمكنس! وكانت تتمايل طربًا، متناسية أحوالها المأساوية، على أنغام صحون الطرب، ونجمة داود تتدلى من رقبتها.. لكن كيف جاءت إلى بيتنا بالذات؟ ولماذا؟ هي قصة حزينة تشبه رواية من روايات تشارلز ديكنز، قصة مدينتين على الأرجح.. ومع تمايلها وتأرجح نجمتها على صوت الطرب..

قصتها تستحق أن تروى، بخاصة بعدما تداخلت مع حكاية مماثلة بعد شهور لامرأة فلسطينية و3 من أولادها عندنا، في نفس المكان، والبيت، وصحفة العجين والموفا وصندوق الطرب والصحون أبو صوت.. تداخلت قصة المكنس اللاطم الذي يبدو أنه انتقل إلى خد اليهودي هذه المرة في ملحمة استمرت ثلاثة أرباع القرن، ومازالت أحوال اللطم فيها جارية إلى وقتنا هذا.

(الصورة مهداة من الأستاذ وديع أمان لطفلة يهودية من عدن تعجن)