اليمن: التاريخ والهُوية (1-4)

الإهداء:
إلى روح العالم البروفيسور د. محمد عبدالقادر بافقيه، اسم علم فكري تاريخي وثقافي فرض نفسه بمكانته ودوره الوطني ليكون أول وزير للتربية والتعليم في أول حكومة وطنية بعد الاستقلال الوطني، 30

البروفيسور د. محمد بافقيه في لباخ عام 1989 (كرستيان روبان)
البروفيسور د. محمد بافقيه في لباخ عام 1989 (كرستيان روبان)

نوفمبر 1967م، تفرغ بعدها لاختصاصه في علم التاريخ، ليثبت اسمه كعالم تاريخ متخصص على المستوى العالمي.. كتبه وأبحاثه غدت مراجع ومصادر أساسية في هذا المجال.

كان من أوائل المساهمين في صناعة الكتابة المعاصرة لتاريخ اليمن القديم، وفق أصول بحثية علمية أكاديمية رصينة، إسهاماته في هذا المجال لا تعد ولا تحصى، ليس من حيث مساحة (كم) الإنتاج البحثي، بل من حيث (الكيفية)، القيمة المعرفية التاريخية المضافة التي قدمها في كتاباته "تاريخ اليمن القديم"، وكتابه الموسوعي "توحيد اليمن القديم"، والعشرات من الكتب والأبحاث.

عالم كبير أدرك معنى اليمن ومكانته في التاريخ.
إنسان بسيط متواضع شأن العلماء، والعظماء في التاريخ، الذين لا ينتظرون مجدًا شخصيًا على أي مستوى كان.
رحل عنا جسدًا، وبقي أثره المعرفي والفكري والثقافي التاريخي حاضرًا بيننا، رحل دون إنصاف من الجميع، ومن حقه علينا أن تسمى جامعة أو متحف باسمه.
لروحه الخلود والمحبة والسلام.

في معنى الهُوية:

إن علاقة اليمن واليمنيين بالتاريخ متشابكة ومتوحدة، يتبدى اليمن كأنه واحدٌ من تمظهرات التاريخ، لشدة حضوره فيه، والتصاق المعنى التاريخي به. ولن نطيل الحديث حول صلة اليمن بالتاريخ، ففي الكتب السماوية يرد ذكر اليمن: في التوراة، وفي القرآن الكريم: ذِكْر لسبأ والأحقاف.. على أننا هنا سنقف هنيهة معرفين بالدلالة اللغوية (القاموسية) لمفهوم الهُوية، وكذا المعنى الدلالي الفلسفي/ السوسيولوجي.

الهُوية لغة: تعني "حقيقة الشيء أو الشخص المطلق، على صفاته الجوهرية، وذلك منسوب إلى هو"(1). وفي القول هنا "منسوب إلى هو"، إنما يعود إلى الذات المعنية والمعينة هنا، والتي هي اليمن، إذ تمثل وتجسِّد الإطار المشترك الجامع، أو الهُويةَ الموحدة لجميع اليمنيين على اختلاف مذاهبهم، ومللهم السياسية، ودولهم.

إن اليمن، مثل العروبة، ليست هُويةً عرقية "إثنية"، هي هُويةٌ سياسية ثقافية اجتماعية حضارية تاريخية، مفتوحة على فضاء التقدم الوطني والقومي والإنساني. هكذا نفهم الهُويةَ اليمنية، بعيدًا عن حالة التنابذ العرقي: قيسية، يمنية، قحطانية، عدنانية، حتى تداعياتها المتأخرة في صورة زيدية، شافعية، وإلى شمال وجنوب، وصولًا إلى الظاهرة الإمامية كرة ثانية.
إن حديثنا عن الهوية الكلية/ الجامعة (الوطنية)، لا يلغي أن لكل فرد أو جماعة، هويات متعددة، ذاتية/ خاصة: مذهبية، دينية، قبلية، لغوية، ثقافية، جهوية لغوية، المقصود هنا اللهجات المحلية، باعتبار اللغة العربية، هي لغة جميع العرب.. هويات محلية لها كل التقدير والاعتبار، فالتعدد إثراء وإغناء للهوية الكلية/ الجامعة.

فالهُوية اليمنية هي الجامعة لكل تلك الهُويات الفرعية، باعتبارها هُويةً مفتوحة على جميع مكونات المجتمع، وليست هُوية تتحكم بها رابطة العرق، أو الدم، ونظرية الأنساب، التي تفتح الباب واسعًا أمام تفكيك المجتمعات أو تدمير الدول، وتمنع قيامها لمدى زمني طويل، وهو ما اشتغل ومايزال يشتغل عليه الاستعمار الغربي في جعله التجزئة والتقسيم "فرق تسد"، قاعدة، والوحدة والتكامل استثناء، باعتباره الهُويةَ اليمنية بنية أنثروبولوجية مغلقة على ذاتها، لأن أساسها إثني، أو مذهبي، أو ديني، أو قبلي، أو قروي، أو مناطقي (جهوي)، بهدف حرف حركة ونشاط المجتمعات وصراعاتها عن مدارها السياسي، والاقتصادي الواقعي، وتحويلها إلى حروب أصوليات هوياتية صغيرة، مغلقة لا تنتهي.

ليس هناك من هوية نهائية لأي شعب، كما ليس هناك من تاريخ نهائي، ضدًا على ما ذهب إليه فوكوياما حول نهاية التاريخ.. التاريخ صيرورة، تدخل فيها الإرادة والحلم، والفعل المغير هو الذي يقوم بتحويل الحلم إلى واقع.. إلى تغيير نوعي. أي أن الهوية في التحليل الأخير هي حالة اجتماعية تاريخية.

وبهذا المعنى، فإن الهُويةَ اليمنية ليست منجزًا كاملًا نهائيًا، وجد في التاريخ دفعة واحدة، مع "كرب إل وتر"، أو "شمر يهرعش"، أو "سيف بن ذي يزن"، أو غيرهم، وما علينا سوى إعادة تلك الهُوية التي كانت.

الهوية كما نفهمهما كائن حي متحرك، تغتني أبدًا بالجديد في سياق الممارسة والتجارب الحياتية للناس.. التجارب والتراكمات المعرفية والفكرية والسياسية والثقافية، ويمكن للهوية أن تعيش لحظات انكسار وأزمة بفعل تطورات الصراع السياسي والاجتماعي في هذه المرحلة أو تلك، على أن الهوية تبقى هي الإطار الجامع والموحد للجميع، بصرف النظر عن الشرط السياسي، أو تبدلات حالة السلطة.

وكجملة اعتراضية هنا، فأنا أعتبر حرب 1994م، تحديدًا وخصوصًا، ومعها كل الحروب العبثية/ الأهلية: المذهبية، والدينية، والعرقية، والقبلية، والجهوية، في تاريخنا الحديث والمعاصر، تشكل حالة انفصال وقطع مع تاريخ الهُوية اليمنية الجامعة.

فالهُوية كما يعرفها السيد علي بن محمد الجرجاني، هي "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق، اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"، وهي كذلك "الهوية السارية في جميع الموجودات"، ما إذا أخذ حقيقة الوجود، لا بشرط شيء ولا بشرط لا شيء(2) على قاعدة الاعتراف بأن للإنسان (كل إنسان) هويات متعددة (أصلية/ كلية، جامعة)، و(فرعية)، لا غنى عن كل منها، ولا إقصاء لأي منها، فكل منها يقود إلى الآخر، ويكمله، في علاقة تضامن وتكامل وتوحد، وليس نفيًا وصراعًا وتناقضًا.