الفوضى الخلاقة والمحنة العربية

الفوضى الخلاقة والمحنة العربية

*عبدالباري طاهر
وضع الرئيس الأمريكي السابق العالم أمام تهديد "التطهير" بسياساته الحربية المانوية عالم الخير وعالم الشر، وتقاسم مع الجهادي السلفي بن لادن والظواهري هذا التقسيم البائس، وإن ادعى كل واحد منهما أنه رمز "الخيرية والدين".
لم يكن بوش فرداً معزولاً، بل كان المعبر الأمين عن قوى عالمية «امبريالية» تدأب على عسكرة الكون حتى أعماق البحار والأفلاك السماوية، وانتهاب خيرات الشعوب واستعبادها بمنطق استعماري مدجج بهجنة "الحروب الصليبية"، ومنطق القوة المجردة من القيم والأخلاق والمبادئ. وبوش قد ارتبط اسمه بتدمير البيئة، وإعلان الحروب. وهي -أي القيادة الأمريكية- وهي تتواجه وتتقاتل مع تيارات أخرى (سلفية جهادية)، تعبر عن عجزها في فهم الدين وروح العصر والحداثة بالعودة إلى الماضي للتقاتل به وعليه.
في هذين التيارين الكبيرين تتوسط أنظمة عالمثالية ورابعة حسب نظرية المفكر سمير أمين في الأطراف والمحيط، وهي المجموعات العالم ثالث ورابع، فهناك مناطق خطت بعض الخطوات في التصنيع، ولكنها غير قادرة على تحديات السوق العالمية "منها في الوطن العربي: الجزائر، مصر، العراق"، ومنها مناطق ظل اقتصادها قائماً على تقسيم العمل الخاص بالمرحلة السابقة "التخصص في إنتاج الخامات" (الدول الخليجية) أو الزراعية (السودان)، وقد كان الفشل هو العنوان الأبرز لفشل الكثير من هذه الأنظمة (المجموعتين). ومن هنا كما يرى كانت ردود الأفعال مختلفة ومتفاوتة.
وينسب أمين الفشل إلى أسباب متعددة ليس من بينها "معاداة الإسلام للتقدم.
يتحاور مفكران عربيان مهمان: سمير أمين مدير منتدى العالم الثالث، وصاحب نظرية المركز والأطراف، وبرهان غليون مدير مركز دراسات الشرق الأوسط المعاصر في جامعة السربون في باريس.. يتحاوران "حول الدولة والدين"، يتفقان ويختلفان من حول قضية مهمة ومؤرقة، ولكنهما يكادان يجمعان على خطورة أوضاع عالمنا.
بوش الابن أحد أهم عناوين الإرهاب وصناعه خاتمة القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين.
قاد بوش برعونة وطيش كبيرين، إرهاب الدولة الكبرى وإرهاب الاستعمار ضد بلدان العالم الثالث والرابع، وحتى الإرهاب الأصغر لبعض حكام هذه البلدان. فوجدت هذه البلدان نفسها أمام 3 أنواع من الإرهاب: إرهاب أمريكا الدولة الكبرى في العالم، مسنودة بإرهاب الدول الاستعمارية والتابعة، ثم ثانياً إرهاب الأنظمة المستبدة والفاسدة (التابعة) في عالمنا الثالث والرابع، ثم إرهاب الاتجاهات المتطرفة، ومن أهمها: الجهادية السلفية. والأطراف الثلاثة يرفد بعضها بعضاً.
وسواء تحالفوا أو تقاتلوا فكل منهم يقوي الآخر، أو يخلق له الأرضية والمبررات لنشر إرهابه. أحداث ال11 من سبتمبر 2001 في نيويورك، مكنت أمريكا من غزو أفغانستان واحتلال وتدمير العراق، وفي الوقت نفسه أعطى الغزو الاستعماري الأمريكي والعدوان الإسرائيلي ضد لبنان وفلسطين الذريعة والمتكأ للتيارات السلفية الجهادية وللآيات الإيرانية الخروج من الأحداث رافعين رايات الجهاد والإرهاب، وفرض منطقهم على الحياة والعصر بسيف التكفير وحد الإرهاب.
يقول غراشي يدخل المجتمع في أزمة عضوية حين يلف العجز السلطة والمعارضة معاً، وكان لينين يقول: يدخل المجتمع في سيرورة من التفكك والاستنقاع حين يساوي العجز بين السلطة والمعارضة. يضيف المفكر الفلسطيني فيصل دراج أن المرئي في الوطن العربي ومنذ سنين يجاوز ما قال به غراشي ولينين معاً، ذلك أن ما يوحد السلطة والمعارضة معاً ليس العجز وحده، بل تقاسمهما لتصورات وممارسات متشابهة كما لو كانا وجهين مختلفين لعملة واحدة.
يدرك كثيرون أن أمريكا والاستعمار قبلها مسؤولون عن نشر بذور الإرهاب وغرسه في العديد من بقاع الأرض، وأن إسرائيل في فلسطين والمشرق العربي قد مثلت بؤرة إرهاب يمتد لما يقرب من ثلث قرن، ولا تزال حرائقه ممتدة حتى اليوم.
والأنظمة العربية بفسادها واستبدادها مصدر رئيسي أيضاً للتطرف، سواء تحالفت مع إسرائيل أو تحاربت. أما التيارات الجهادية السلفية فهي الابنة الشرعية لهذه الأنظمة التي غرست التعليم المذهبي والسلفي الجهادي، وأفسدت خطاب المسجد، ونشرت الأمية والفقر والمرض، وتحالفت مع أمريكا لمحاربة الإرهاب في حين كانا يقويانه ويستخدمانه لفرض سياساتهما التدميرية.
أليست سياسات النهب والحروب التي مارستها البلدان الاستعمارية ضد البلدان المستعمرة هي مسؤولة عن خلق مناخات وبيئات الإرهاب في عالمنا؟ تتلاقح سياسات ومناهج دول أو دولة المركز مع حكام بلدان الأطراف لتعميم الفقر والجهل والمرض. فهذه السياسات تنتج موضوعياً وعملياً التيارات المتطرفة والإرهابية التي تجد نفسها "منتج" السياسات الاستعمارية والوطنية الفاسدة، وأداة بيد الحكام الفاسدين والمستبدين لقمع التيارات الداعية للحرية والمناضلة من أجل الديمقراطية والعدالة والمساواة. ثم أيضاً ضحايا وجلاوذة في آن. يتراوح إنتاج العربية السعودية من النفط ما بين 11 و15 برميلاً من النفط، ومع ذلك فأهلها فقراء، وبنيتها هشة تستطيع مطرة لساعات أن تدمرها، لعدم وجود صرف صحي لعاصمة التجارة والاقتصاد.
وتغطي السلطة اليمنية على فسادها واستبدادها وعجزها عن التنمية والبناء والإصلاح، بالهروب إلى حروب مكرورة ومتناسلة تعممها على اليمن كلها.
ولعل فلسطين هي الأنموذج الأفجع للخيبات الكبرى التي تحول حركة تحرر وطني إلى أداة مساومات وقمع ضد شعب يناضل ثلثي قرن لاستعادة أرضه وحريته.
تؤيد جماعة عباس الفاسدة والتابعة بناء جدار فولاذي يسلم غزة للحصار الإسرائيلي، ويحقق لإسرائيل ما عجز عن تحقيقه جيش الدفاع الإسرائيلي. وتتحالف أمريكا وإسرائيل ومصر لخنق غزة وحرمان مواطنيها من أبسط حقوق الحياة. إن لم يكن هذا إرهاباً فلا معنى للإرهاب.
فأمريكا هي الصانع الأكبر للإرهاب سواء في حماية وتقوية الإرهاب الإسرائيلي، أو في مساندة أنظمة تابعة تنتج سياساتها العامة الإرهاب.
غزوة نيويورك وراءها سياسات خطرة تدعمها أمريكا، وانتصار طالبان في أفغانستان وحتى حربها مع زعماء الحرب وضدهم تتشارك فيها أمريكا والمال العربي.
لا يستطيع الذين تصنع مجمل سياساتهم الإرهاب، أن يقضوا على الإرهاب.
أمريكا تصنع "الإرهابـ"؛ إرهاب الدولة العظمى، ثم تعلن الحرب عليه، وهو المستحيل عينه. فاحتلال أفغانستان (حتى لو تم بموافقة دولية) يبقى في نظر الأفغان (أهل الأرض) إرهاباً. واحتلال وتدمير العراق إرهاب بامتياز، والدفاع ودعم وتشجيع جرائم الحرب الإسرائيلية إرهاب. والإرهاب يخلق غالباً مقاومة وطنية، وقد يخلق إرهاباً.
والإرهاب وباء ينتشر بسرعة العصر نفسه، فاحتلال أفغانستان والعراق وما يجري في فلسطين قد أسهم بنصيب وافر في تقوية عضلات الإرهاب في أكثر من مكان.
تعلن السلطة اليمنية الحرب على شعبها في أكثر من منطقة، وتتشارك مع الأمريكان والسعودية في "الخراب والتدمير الشاملـ" في صعدة والمحفد ومناطق مختلفة من اليمن. تقاتل الأمريكان والسعوديين واليمنيين وربما غيرهم ضد القاعدة والسلفية الجهادية بصورة عامة، نوع من أنواع العبث، وتقوية الإرهاب ونشره.. كيف؟
فحرب أمريكا ضد الإرهاب إرهاب حقيقي، فهو إضافة إلى حربه الاستعمارية، يصنف أمما وشعوبا ومعتقدات ومناطق، ويضعها في خانة الإرهاب، كما أن بلداناً حليفة أو بالأحرى تابعة كمصر والسعودية واليمن، تنتج الإرهاب الذي "تحاربه يوماً"، فهي بفسادها واستبدادها وطائفية وعشائرية حكمها تخلق الإرهاب خلقا.
التعليم في العربية السعودية رغم المعالجات المهمة فيها للمناهج فما تزال "الجامعة الإسلامية" في "المدينة"، و"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" تنشر السلفية الجهادية، وتدفع بها إلى مناطق مختلفة. أما اليمن فقد اختارت ضمن تقسيم العمل والظروف الاقتصادية والسياسات اللاوطنية، تشجيع التعليم المذهبي، ونشر السلفية الجهادية في اليمن، والتعويل على التجنيد للالتحاق بالإرهاب في أفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق والصومال، ثم في اليمن ذاتها. فالإرهاب يمثل مصدراً من مصادر الدخل. فهل يمكن للذين يصنعون الإرهاب أن يحاربوه؟
تحاول الدولة اليمنية خلط الأوراق بين القاعدة والحراك الجنوبي والحوثيين والمعارضة السياسية (اللقاء المشترك)، وفي الوقت ذاته تحاول جر السعوديين والأمريكان إلى التشارك في حربها ضد هذه الأطراف، غير مدركة أنها تعمل على توسيع الحرب، ومدها إلى مناطق عديدة تتجاوز اليمن.
خلط الأوراق يحول قوى عديدة خصوصاً في الجنوب إلى "قاعدة"، ويقطع الطريق على الحل السياسي، ويحول اليمن إلى ميدان حرب دولية تدمر اليمن لصالح تجار الحروب وصناع الفتن والاقتتال.
ولم يتعظ بوش الجديد -القديم بمأساة أفغانستان وباكستان والعراق والصومال، وهي جرائم تشارك فيها الأطراف الثلاثة: أمريكا، والمال العربي، والتجييش العربي الذي كانت اليمن طرفاً فاعلاً فيه.
إخماد أنفاس المعارضة السياسية (اللقاء المشترك)، والانتصار على التمرد الحوثي، والالتفاف على مطالب الحراك الجنوبي السلمي بعد دمغهم بالإرهاب، وربطهم بالقاعدة، وسيكون المال السعودي وبعض الخليجي والمشاركة الأمريكية وقود هذه الحرب. فهل ينجح النظام في ربط الحراك بالإرهاب كما نجح في ربط الحوثية بإيران؟ وهل ينجح في عزل المعارضة السياسية وتفكيكها؟ إنه الرهان القادم والتحدي الحقيقي.
وهل تنجح السعودية في إلحاق اليمن بها! في ظل مباركة "يمنية" وتغاضٍ دولي؟
وهل يستمر بوش الجديد في نهج سلفه بوش القديم، رغم أنه -أي بوش الديمقراطي والجديد- قد نجح ببرنامج مختلف، وشعارات مختلفة، وكسب حماس وتأييد قوى إسلامية عالمية توجت بمنحه جائزة نوبل للسلام؟!
النهج القديم ما يزال هو الممارس على صعيد دولي، وكان تراجع "بوش الجديد" عن طلبه وقف الاستيطان في فلسطين إلى قيادة إسرائيل، وتحدي هذه القيادة المتطرفة لطلبه شاهد اللامبدئية والضعف.