«كان بعد حاله، متعلم، مصلي، لا ينهب أحد ولا يعتدي على أحد»، وقال آخر: «طيب ليش ما يذيعوا الخبر في التلفزيون؟»

«كان بعد حاله، متعلم، مصلي، لا ينهب أحد ولا يعتدي على أحد»، وقال آخر: «طيب ليش ما يذيعوا الخبر في التلفزيون؟»

الشارع يتذكر بن شملان
> علي الضبيبي
كل اليمنيين تقريباً يعرفون اسم فيصل بن شملان، لكن كثيراً منهم، حتى نهار أمس، لا يعرفون أنه مات.
الحاج يحيى قاسم أحد الذين صدمهم هذا النبأ المباغت. وعندما أخبرته عبر التليفون بالموضوع لم يصدق، وكان رده: «يا ذاك مش معقول! أخلف علمك».
ترك فيصل بن شملان في نفوس اليمنيين ذكرى جميلة، وبالكاد اقتنع الحاج قاسم أن مرشح الرئاسة، الذي كان يلوّح لجماهير الناخبين بيديه في مهرجان الحديدة، قد فارق الحياة مساء الجمعة الماضية. نعم اقتنع الحاج يحيى قاسم، 70 عاماً، وأظنه بكى. كان يحب بن شملان كثيراً، ولا تزال صور المرشح الرئاسي الشهير ملصقة على جدران ديوانه البسيط في أقاصي ريف ريمة.
في أبريل 2006، كان الراحل الكبير المهندس فيصل بن شملان يجوب المحافظات وجماهير الكادحين يهرعون لاستقباله في ساحاتها الكبيرة. وكان الحاج يحيى حسن قاسم من هؤلاء المتحفزين الذين كانوا يتباهون بخطاباته وصوره ويفاخرون بتاريخه الحافل.
غادر المهندس فيصل بن شملان الدنيا متخففاً وبلا ضجيج، وهذه عادته دائماً عندما يقرر الرحيل. فرجل الدولة الكفء، عندما قرر ترك وزارة النفط عام 1995، لم يحدث أية جلبة، ولئن حصل شيء من ذلك فلم يكن هو السبب. فلا تزال قصة إعادة السيارة إلى حوش الوزارة، صباح ذلك اليوم المكلوم، عالقة بأذهان الموظفين القدامى في وزارة النفط والثروات المعدنية «لا أحد يستطيع أن يزايد على نزاهة المهندس فيصل بن شملان ووطنيته» قال أحد أولئك الموظفين الذي طلب إخفاء هويته. وهذا الراحل الكبير أيضاً، عندما اقتضى الأمر سنة 2001 أن يعلق عضويته في مجلس النواب، كان عند مستوى القرار، وكان انسحابه في منتهى الهدوء. رفض حينها أن يرفع يده لتعديل المادة 64 من الدستور القائلة بتمديد أعمار أعضاء ذلك المجلس سنتين برلمانيتين، وفي 2006 رفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات الرئاسية عائداً إلى شقته في مدينة عدن مرتاح الضمير.
هذه حالة نادرة في تاريخنا الوطني، وحتى قبل رحيله الأخير بساعتين، مساء الجمعة الفائتة، أوصاهم فيصل بن شملان «أن يدفنوه بعد أقرب صلاة، وأن يحملوه إلى المقبرة مثله مثل بقية الناس»، وهكذا رحل نهائياً.
الشاب توفيق يوسف الوصابي، مصلح ساعات في جولة الجامعة، هو الآخر تفاجأ بالخبر ظهر أمس. لم يكن يدري أن بن شملان مات قبل يومين. وتساءل مستغرباً: «طيب ليش ما يذيعوا في التلفزيون الخبر؟». لا أحد من الحاضرين لحظتها كان يملك الإجابة، لكن عجوزاً مسنة أجابت: «لأنه قضى عمره في خدمة الوطن قبحهم الله قبيحه!».
يعتقد هذا الشاب الفقير والمحروم من التعليم أن رحيل بن شملان خسارة على اليمن، قائلاً: «كان أفضل واحد بيننا». هذا رأيه، وتحت هذه القناعة انتخبه رئيساً للجمهورية اليمنية قبل 4 سنين. لكن في نظر الشابين الجامعيّين عبدالرحمن السفياني وعماد العجل، كان رحيله مؤسفاً «لكن عادي جداً». يضيف عبدالرحمن: «هناك حزن ولكن لم يحدث أي هزة في المجتمع»، وزاد قال إن بن شملان لم يكن معروفاً على نطاق واسع «إلاَّ يوم ترشح للرئاسة».
السفياني شاب في ال28 بكلية التجارة، وصديقه العجل في كلية العلوم، والأخير قال: «أنا بصراحة لم أنتخبه، ولكن أعتقد أنه شخصية وطنية كبيرة. وأنا أشعر بالحزن الشديد عليه ومتعاطف جداً مع عائلته».
في جولة الجامعة الجديدة هناك كثير من الناس يتحدثون عنه، ولم يخفِ محمد النعماني، وهو صاحب كشك، أسفه «لرحيل آخر الناس المحترمين في هذا العالم». قال: «عندما تلقيت نبأ وفاته حزنت كثير والله»، وأضاف: «كان رجل نظيف لم يوجع أحد». وفي اعتقاد النعماني إن موت المهندس فيصل بن شملان «يشكل خسارة وطنية كبرى، وبالذات في هذا الزمان الذي تتداعى فيه الخطوب على البلاد من كل صوب». وعندما سألته: «ما عساه أن يفعل الآن وهو ماكث في بيته ومتحلل من كل وظائفه الرسمية؟»، أجاب النعماني: «كان على الأقل يفيدهم برأيه».
في الانتخابات الرئاسية الأخيرة تمكن فيصل بن شملان من قلوب الناس، وبالذات المعذبين منهم والموظفين أيضاً. فهو على الأقل قدَّم لهم رؤيته لتحسين الأجور، ودفع بمنافسه علي عبدالله صالح لاعتماد ما أصبحت تعرف بـ«إكرامية الرئيس». تقول إحدى المعلمات "إ.س.ر" إن اسم فيصل بن شملان «ترك في نفوسنا ذكرى جميلة». لكن تلك «المكرمة الرئاسية» لم تصمد أكثر من سنتين «وإذا بنا في رمضان الماضي نشتي بن شملان يظهر من جديد» تضحك.. قالت إن رحيله «محزن جداً جداً»، وإن الصورة التي تعامل بها الإعلام الرسمي إزاء هذا الأمر «محزنة أكثر وتعبّر عن نفسيات مريضة وخصوم غير شرفاء».
كانت أسماء أحمد ناصر، وهي طالبة في كلية التربية بصنعاء، تقلِّب الصحف وفي نفسها أسى: «رحمك الله يا مرشحنا». وعندما طلبت تعليقها على هذا النبأ الحزين، ردت: «خسارة، خسارة». قالت أسماء إنها كانت متأثرة جداً بشخصية المهندس فيصل بن شملان: «كنت أحبه قوي قوي، وما حسينا أبداً إنه كان يكذب علينا». وأضافت متنهدة: «كان صادق وواضح ويصلح يطلع زعيم وطني مش معقد ولا أناني». لكن، وهي تأسف لرحيل المرشح الذي منحته صوتها في انتخابات 2006، لم تخفِ أسماء أنها أيضاً تحب: «فخامة الرئيس علي عبدالله صالح». وقالت وشخصية رئيسنا أيضاً «محبوبة عند نسبة كبيرة من اليمنيين».. سألت أسماء «الباري عز وجل أن يصبِّر عائلة بن شملان ويجبرهم، وأن يطلِّع من هذه الأسرة شخص يخلفه فيهم ويخلف اليمنيين».
تمر اليمن بمرحلة هي الأصعب في تاريخها تقريباً، ولابد أن كثيراً من النبهاء استحضروا شخصيات وطنية عديدة هذه الأيام، ومن بينهم شخص المهندس بن شملان. يقول محفوظ هزاع، إنه فعلاً تذكره قبل أن يموت ب3 أيام تقريباً، وأضاف: «لكن عندما جاء الخبر الفاجع زعلت جداً».
محفوظ، خريج كلية الطب ويجهد نفسه هذه الأيام لنيل درجة الماجستير في الكيمياء العضوية، وقال معبراً عن مشاعره الحزينة: «عندما يفقد صوت من الساحة الوطنية له تأثيره فيها، سواءً بشكل إيجابي أو معارض، فإنه يحمل الآخرين مسؤوليات كبيرة لكي يجهدوا أنفسهم بقوة في اتخاذ القرار الصحيح لملء الفراغ الذي تركه». ومن وجهة نظره، فإن فيصل بن شملان «كان آية في النزاهة ونظافة اليد، كان رجل دولة ومثالاً لتحمل المسؤولية الكبيرة أمام الشعب وأمام التاريخ». مضيفاً: «أعتقد أنه أدى واجبه وترك لنا مهمة القيام بالباقي».
«لا أحد مسرور بموت إنسان لكن هناك سفهاء يا ابني، سفهاء لا يحترموا الإنسان لا حي ولا ميت» قالها ذلك المسن الخارج من صلاة الظهر لتوه في جامع الرقاص بصنعاء، عندما استفسرته عن موقفه من فيصل بن شملان الذي كان مرشحاً للرئاسة. لكنه أضاف: «كان بعد حاله، متعلم، مصلي، ما ينهب أحد ولا يعتدي على أحد، والله هو المطلع على ما في السرائر مش أنا»، واعتذر عن الكشف عن اسمه.
مات المهندس فيصل بن شملان واليمنيون يترقبون «متى ينقض عليهم البيت»، وعبَّرت الطالبتان في كلية الآداب جامعة صنعاء (بدون اسم) عن تعازيهما الحارة لأسرة الراحل، وأسفهما البالغ من تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد «لدرجة أنني بعض الأحيان أحس أنني شاجنن» قالت إحداهما، وأضافت الأخرى: «لا تصدقوش، البلاد في حالة لا هو ولا غيره يقدروا يصلحوها الآن». مضيفة: «الذين يقولوا إن بن شملان كان شايقدر يسوي شي مبالغين».
أما مرام محمد، وهي طالبة متفوقة في المعهد العالي للعلوم الصحية، فإنها لم تفقد الأمل بعد، قالت: «شايخارج الله». وأضافت: «إذا شعر اليمنيون بالخطر فعلاً فإنهم سينقذوا بلادهم، أما اذا هم جالسين مريعين للعالم يأتي فسلامي عليهم».
ومرام لا تبالغ في مدح بن شملان، ولا تقلل من قدرات الرئيس علي عبدالله صالح. قالت: «اذا كان بن شملان سيشارك في إصلاح البلد بصدق ووطنية فرحيله خسارة، وإذا كان العكس فرحيله مثله مثل أي واحد، وفي كل الأحوال الله يرحمه».

***
  قالوا عنه:
< عاش خفيفاً ورحل خفيفاً.. كان مثالاً للنزاهة والشجاعة في زمن قل فيه من يحملون صفاته، فرحمه الله.. سيعيش في قلوبنا وسيبقى.
محمد عبداللاه القاضي
مقرر لجنة التنمية والنفط في مجلس النواب
وعضو اللجنة الدائمة في المؤتمر الشعبي العام
< رحل المهندس فيصل بن شملان واليمن في أمس الحاجة لحكمته ونزاهته وتواضعه الجم.. كان رجل دولة، ومسيرته لا يسطّر مثلها سوى العظماء من أمثاله.
الشيخ مفرح بحيبح
< لم أعرف هذا الرجل عن قرب، إلاَّ أن معلوماتي عنه، التي أثق بها، أنه كان كفؤاً ونزيهاً مما كان يدفع بالحزب الحاكم في الجنوب أن يمكنه من مواقع حساسة مع أنه حتى لم يكن عضواً في الحزب.. كان صاحب قرار وكان كتلة من القيم والمبادئ التي يضحي بأي شيء يتعارض معها، حتى وإن كان منصباً رفيعاً في الحكومة، وخير مثال؛ استقالته من وزارة النفط عام 1995، ومن مجلس النواب سنة 2001.. واضح أنه كان صلباً وشجاعاً لا ينحني للضغوط من أين أتت، وخير مثال؛ أن الكثيرين، حتى من المعارضة، حاولوا إقناعه أن يبارك للرئيس فوزه في الانتخابات، إلاَّ أنه أبى، لا بدافع شخصي، وإنما لقناعته أن الانتخابات كانت مزورة.. إنه بالفعل مدرسة في الوطنية والنظافة والتضحية في سبيل مبادئه وقيمه.
من كان يعرف عنه خطأ فليرمِ قبره الشامخ بحجر، إلاَّ أنني على ثقة أن الجميع سوف ينهالون عليه بالورود بمن في ذلك خصومه، وإن بدواخل أنفسهم أو خلسةً في الظلام.
الشيخ حسين العجي العواضي
المنسق العام لتحالف قبائل مأرب والجوف،
معارض سياسي مقيم في سوريا
< كان فيصل بن شملان يمثل لي الإنسانية بمعناها السامي، مصوغة في أجمل قالب من الحكمة والرزانة.
كان في البرلمان يمثل مرجعية نرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة، فلا نجد إلاَّ رأياً سديداً وموقفاً ناضجاً وطنياً ومسؤولاً. يكفيه اعتزازاً أنه عندما توارت الكثير من رجالات اليمن برز كقائدٍ لأشواق اليمنيين وآمالهم وطموحاتهم لحمل راية التغيير. سيتذكر التاريخ هذه القامة الوطنية السامقة، وهذا الجهبذ، وستنظر الأجيال القادمة في هذه القمة الشامخة مستلهمة منها الزاد والذخيرة لإحداث التغيير المنشود الذي تصبو إليه.
علي حسين عشال عضو مجلس النواب
< أحد الهامات الوطنية في البلد، وبرحيله تكون اليمن خسرت فارساً من فرسانها، بالذات في الظروف الصعبة التي تعيشها، لأنه بحنكته وحكمته ووطنيته كان يستطيع أن يسهم في معالجة المشاكل القائمة. وكان له آراء سديدة كان أدلى بها في فترات من حياته، ولو تعامل معها الناس بشفافية لكانت كفيلة بمعالجة كثير من المشاكل التي تعصف باليمن الآن.
نأمل بالقائمين على شؤون الوطن أن يضعوا آراء هذه الشخصية الوطنية الكبيرة محل اهتمام ودراسة، لأنها تصدر من رمز وطني بهذا الحجم.. مات وهو يأمل أن يرى اليمن وقد تجاوزت كل المحن، وقد صار اليمن سعيداً.
ولكن هذا قدر الله.. نسأله تعالى أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته.
سالم منصور حيدرةعضو مجلس النواب
< أعزي أسرة مرشح الرئاسة فقيد اليمن رائد تفعيل تجربة التداول السلمي للسلطة المهندس فيصل بن شملان، وأحزاب المشترك والشعب اليمني.
علي بن إبراهيم بن يحيى حميد الدين
***
شملان.. المُنفرد والنزيه الذي أعاد الاعتبار للسياسي

شكل حضور بن شملان دوماً استدعاءً دائماً ومؤرقاً لقيم تبدو خاسرة الآن في اليمن: النزاهة والاستقلالية والمصداقية والشجاعة. وبين عامي 1934 و2010 استغرق حياته في إنجاز سيرة نموذجية لرجل عصامي ومحترم استطاع أن يترك علامة فارقة في أي محل كان فيه، سواء في السياسة أو الإدارة، بأقل قدر من التناقض مع قيمه المعلنة.
في 2006 تقاطع النموذج الشخصي والعام المتفرد الذي قدمه مع استيقاظ حماسة من نوع ما لدى اليمنيين، لتصبح تلك المحطة التنافسية على الرئاسة مقرونة بوعد تغيير ارتبط كلياً به، وأصبح الرجل الكهل ذو النظارات السميكة والشعر الأشيب مفتاحاً لفورة مشاعر افتقدتها جموع الناس طويلاً قبل أن يصعد هو إلى واجهة السياسة.
لقد ارتبطت محطات السيرة الشخصية لبن شملان مع تحولات اليمن، ومنفرداً استطاع أن يؤسس لنفسه خياراً برجماتياً مستقلاً ونزيهاً، رغم هواه الإسلامي "المعقلن" بشدة، في وجه عواصف الأيديولوجيا واستقطابات السياسة والمصالح. وهكذا كان حاضراً وشاهداً ومشاركاً بدءاً من لحظته الزمنية الأولى التي تقاطع فيها وعيه مع النموذج السياسي للسلطنات الحاكمة في حضرموت قبل الاستقلال، ثم تكيفه ودخوله في العمل الإداري والسياسي، وزيراً ومديراً ونائباً، ضمن التشكيلة السياسية التي حكمت جنوب اليمن، مع احتفاظه باستقلاليته تجاه محتواها الأيديولوجي. ثم وزيراً مع الصيغة التي حكمت بعد 1994، ليغادر عقب ذلك منصبه بشكل احتجاجي، عائداً بعدها ب14 عاماً مرشحاً رئاسياً "مستقلاً" لأحزاب المعارضة!
"رئيسنا" كما يحلو للكثير من نشطاء السياسة المعارضين في اليمن، صعد نموذجاً مُنهكاً لأنداده من الساسة، فهو أعاد الاعتبار لقيمة السياسي المبدئي أمام الجمهور، ليس بالمعنى المتصلب أو الراديكالي، بل المعنى القيمي، وشكلت ممانعته الشخصية لتوجيه تهنئة بالفوز للرئيس علي عبدالله صالح بعد الانتخابات الرئاسية، تأكيداً على انسجامه الشخصي مع خطابه المعلن، وفارزاً الآخرين الذين "أقروا" بالأمر الواقع في موقع أقل قياساً به، حيث بدوا تكثيفاً بليغاً لكيف أوهنت المساومات والمصالح "الصغيرة" قيمة السياسي واعتباره في اليمن.
إن بن شملان الجنوبي الذي تمسك بـ"وحدة" عادلة، والذي صوب آخر آرائه ضد الكراهية التي ينتجها خطاب التحريض ضد الآخر، وضد إغلاق خيارات الحوار وتبديد الموارد في بلد يهدده "الجوع" أكثر من أي شيء آخر، رحل واليمن في أشد أزمانها حرجاً. تحتاج بالفعل لـ"الرشد" الذي ميز رأيه في أحوالها وشؤونها، وللثقل الأخلاقي الذي يضيفه حضوره كرجل محترم ونزيه كان لديه دوماً ما يضيفه باعتداد وإدراك واستقلالية.
ماجد المذحجي
***
حيدر العطاس: جدَّد آمال الناس في التغيير وإصلاح المسار
رحل عن دنيانا الفانية العزيز فيصل عثمان بن شملان، إلى جوار ربه. رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جنانه.
عرفته منذ خمسينيات القرن الماضى صادقا شجاعا صريحا، يصدح بكلمة الحق حتى لو كانت عليه أو على أقرب الناس إليه. نزيه ورع يهتم بقضايا الغير أكثر من اهتمامه بقضاياه وشؤونه الخاصة. تميز بسلوكه وعطائه منذ كان طالبا في مدرسة غيل باوزير المتوسطة بحضرموت، ثم مدرسا بها، حين تعرفت عليه، وقد وجدته محبوبا من الطلاب والمدرسين على السواء، حيث فرض حبه بصدق تعامله وصفاء نفسه وحبه للآخرين وحب الخير والصلاح للجميع. كان الطلاب والمدرسون عندما تستعصي عليهم مشكلة من مشاكل ذلك الزمان الطيب يلجؤون إليه ليجدوا عنده الحل، فهو، إلى صدقه وبساطته، اشتهر بحزمه وصرامته، مميزا بين الصح والغلط والحق والباطل، لا يرجو من ذلك إلا خير وصلاح الجميع.
والمحطة الثانية كانت لقائى به مع عدد من زملائه طالبا جامعيا في لندن في المرحلة النهائية. وقتها قدمت كطالب جامعي للتدريب في بريطانيا أثناء عطلة الصيف. كنا حينها لا نضيع وقتا في سبيل البحث عن العلم والمعرفة، فوجدته أيضا يحظى بنفس التميز في السلوك والعطاء بين زملائه ويحظى بحبهم جميعا. لا يدخر جهدا في تقديم المساعدة والنصح لنا لإكمال مهمة التدريب العملي بنجاح. كان ذلك في صيف العام 1965، لكن تلك اللحظات الرائعة تهجس في خاطري ما تزال لكأنها وقعت بالأمس! إنها الذكريات مع الكرام لا تنسى ولا تبلى.
والمحطة الثالثة كانت لقائي به في ذروة النضال لإسقاط المناطق قبيل إرغام الاستعمار البريطاني على الرحيل وإنجاز الاستقلال الكامل لأرض الجنوب الأبي المحتل. قدمت كطالب في السنة النهائية قبل التخرج إلى المكلا فوجدته على رأس اللجنة الشعبية لإدارة شؤون حضرموت، فقد وقع الخيار عليه من بين الكثير من الشخصيات والكوادر لتلك الصفات التي يتميز بها. بادرني فور لقائي به طالبا مني مرافقة الأستاذ الجليل الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه، رحمه الله، إلى العراق ولبنان ومصر لاستقدام مدرسين للمدارس الثانوية، فقد كان قلقا من أن يحل العام الدراسي قبل وصول المدرسين ليشغلوا الفراغ الذي تركه المدرسون الأجانب الذين رحوا مع المستعمر. أنجزنا المهمة وعاد الدكتور بافقيه إلى المكلا وعدت أنا إلى القاهرة لاستكمال الدراسة. كان ذلك في شهر أغسطس من العام 1967. وفي ال30 من نوفمبر من نفس العام رحل الاستعمار وأعلن الاستقلال الوطنى للجنوب كاملا، وفي أول حكومة لجمهورية اليمن الجنوبية اختير طيبا الذكر المرحومان بإذن الله تعالى المهندس فيصل بن شملان وزيرا للأشغال العامة والمواصلات، والدكتور محمد عبدالقادر بافقيه وزيرا للتربية والتعليم.
أما المحطة الرابعة فقد ثبتت قناعاتي بمثالية وشجاعة وصدقية شخصية المرحوم. كان ذلك في العام 1969 عندما أقر إعادة هيكلية السلطة بفصل منصب رئيس الدولة وتشكيل حكومة جديدة، تم اختيار مهندس الثورة والاستقلال فيصل عبداللطبف الشعبى، رحمه الله رحمة الأبرار، لرئاسة الحكومة الجديدة، وكان رئيس الحكومة المكلف جدد اختيار المهندس فيصل بن شملان لعضوية الحكومة في منصب وزير الأشغال والمواصلات، لكنه اعتذر وكان قد قدم استقالته من الحكومة قبل ذلك بأكثر من شهر، وذهب إلى قريته: السويري، بالقرب من مدينة تريم، وتم اختياري لنفس المنصب، لكنني طلبت إعطائي بعض الوقت لمحاولة إقناع الأخ فيصل بالعدول عن رأيه وقبول إعادة ترشيحه لشغل منصب وزير الأشغال. كنت حينها مهندسا للكهرباء بالمكلا، ولم يمض على تخرجي أكثر من 8 أشهر، وكنا نتهيب هذه المناصب قبل اكتساب الخبرة الكافية. ذهبت إلى الأخ فيصل إلى السويري، وجلست معه يومين في محاولة لإقناعه بالعدول عن رأيه، لكنه اعتذر معللا بصدق سبب اعتذاره إذ قال: لا أستطيع شغل أي منصب سياسي في حكومة يلوح في الأفق أنها سوف تتبنى نهجا أختلف معه، مشيرا بذلك إلى ما طرح في المؤتمر الرابع بزنجبار. قلت له كلنا نختلف مع ذلك، فرد لكنك عضو في التنظيم وأنا لست عضوا، وتملك حق المناقشة داخل التنظيم وأنا لا أملك هذا الحق. وعندما هممت بالحديث قال لا أنوي الانضمام للتنظيم، فأنا أفضل أن أظل مستقلا. احترمت فيه هذا الموقف الصريح والشجاع وتدبست أنا في المنصب؟! وتضاعف احترامي له عندما أعاد المنزل والسيارة اللذين خصصا له كوزير، واكتفى بالسكن في شقة بالمعلا، في الوقت الذي يتطاحن فيه الناس للحصول على المنصب والمنزل والسيارة بحق أو بغير حق.
كثيرة هي المواقف والمحطات التي جمعنا العمل فيها. وكان المرحوم دائما يتميز بمواقفه الصادقة والشجاعة، وبنزاهته النادرة، هو الذي تولى الكثير من المناصب الكبيرة والهامة، فقد عمل مديرا للهيئة العامة للكهرباء في عدن، ثم مديرا عاما لمصافي عدن بعد أن آلت ملكيتها للدولة من الشركة البريطانية بموجب الاتفاق، وقد شهدت هاتان المؤسستان أزهى فترات تطورهما في عهده، لأنه كان صادقا ومخلصا في إدارته لهما، ولم يسع لحظة للاستفادة الشخصية من هذه المناصب، وإنني لمتأكد بأن هذه الهيئات بكت عليه مرتين،؛ الأولى عند تركه العمل في إدارتها، والثانية عند رحيله الأبدي عن دنيانا الفانية.
كان موقفه عدم الاستعجال في إعلان الوحدة، لكنه عمل خلالها بإخلاص في كل موقع شغله، مقدما النصائح والآراء النيرة والمخلصة لكل الأطراف لإصلاح المسار والنهج والقيادة، لكن أحداً لم يسمع منه، فحلت كارثة حرب صيف 1994 لتقضي على الآمال والأحلام، مقصية الشريك في الوحدة، وقد سعت قيادة الحرب المنتصرة إلى تزيين نفسها بشخصيات جنوبية كشخصية المرحوم وغيره، واعدة بإصلاح ما أفسدته الأيام، لكن سرعان ما انكشف المستور لتظهر العورات على حقيقتها، فلم يستطع، كغيره، التعايش مع الكذب والنفاق والفساد، إذ قدم استقالته قبل انقضاء سنة من تبوئه منصب وزير النفط، المنصب الذي يسيل له لعاب الكثير من الرجال.
أتذكر مكالمة هاتفية جرت بيننا عندما زار لندن بعد الحرب. كنت حينها في واشنطن، وكان ذلك قبيل استقالته بحوالي شهرين. قال كلمة أكدتها الأيام والأحداث: لا فائدة ترجى للشعب ولا أمل من هذه القيادة طالما ظلت ترعى الفساد...
ومرت الأيام مؤكدة مقولته تلك، وضاق الحال بالبلاد والعباد، وتحركت المعارضة الشعبية الممثلة بأحزاب اللقاء المشترك تنشد التغيير، فصدق كغيره انطلاقا من إيمانه بالتغيير كشرط للخروج من الأزمات المتلاحقة قبل أن تصير البلاد إلى مصير مجهول، وتقدم الصفوف حين تراجع البعض، وخاض المعركة الانتخابية ببسالة نادرة وصدق رؤى، فاحتضنته الجماهير التي هبت في مشهد رائع يؤكد حاجتها إلى التغيير لا من أجل التغيير، ولكن من أجل إنقاذ البلاد من الأوضاع الماساوية وإصلاح المسار وتدارك المصير المهلك الذي تقود إليه سياسة الفساد والإفساد التي استوطنت مفاصل السلطة وأركانها. فاجأت جماهير الشعب السلطة بهذا الموقف الرائع المنحاز إلى ممثل الشعب، فطار صواب سلطة الفساد المتهالكة التي لم تتورع عن استخدام آخر أدواتها الإرهابية بتفجير الأوضاع في مسرحية هزلية سخر منها الصديق قبل العدو، لكنه هو سلاحها الأخير والأمضى، في نظرها، للاحتفاظ بسلطة الفساد.
لقد سجل الأخ المهندس فيصل بن شملان، في آخر محطات حياته، هذا الموقف الرائع الذي حطم قيود الخوف والخنوع، مجددا آمال الشعب في التغيير وإصلاح المسار، وهو الموقف الذي سيظل محفورا في ذاكرة التاريخ. فنم يا أبا تمام قرير العين، فقد بدأ سلاح الإرهاب، الذي رفعته السلطة في وجهك وفي وجه جماهير الشعب، لاختطاف نتيجة تصويتها، بالانهيار بعد أن بلغ مداه، حيث أرادت تفجيره، هذه المرة، في وجه الحراك الجنوبى السلمي الذي ينشد التغيير وإصلاح المسار، فارتد إلى نحرها، وسيكون هذا الارتداد بعون الله ومشيئته ونضال الشعب السلمي الذي حان الوقت لالتحامه في ساحة الشمال للالتحاق بساحة الجنوب دون تلكؤ أو تأخير، سببا في التعجيل بإسقاط سلطة الفساد وتصفية كل أدوات وأوكار الإرهاب.
رحمة الله وغفرانه عليك يا أبا تمام.
 
                                                                       حيدر أبو بكر العطاس
                                                                         * باريس 3 يناير 2010

***
علي ناصر محمد: كان وطنياً من طراز نادر وإدارياً مقتدراً ووحدوياً ترجم عشقه للوحدة في ميادين العمل

ببالغ الحزن والأسى تلقينا نبأ وفاة المغفور له بإذن الله الأستاذ المناضل والقيادي البارز المهندس فيصل بن شملان بعد صراع مع المرض الذي لم يكن سوى نزر بسيط في بحر صراعه الطويل، مكافحاً في صفوف المناضلين في سبيل تحقيق الثورة في الجنوب، ومرابطاً في مسيرة بناء الدولة، وقيادياً وإدارياً مقتدراً في كل المهام التي أوكلت إليه والمناصب التي تبوأها في وزارة الأشغال والهيئة العامة للكهرباء ووزارة النفط وغيرها من المناصب. وقد تعرفت عليه في فترة تحمله لهذه المسؤوليات، والتي كان فيها مثالاً للكفاءة والنزاهة قبل الوحدة وبعد الوحدة.. الوحدة التي لا تزال تشهد للفقيد الكبير بحجم بصماته في عشقها قولاً وعملاً، وقد ترجم ذلك العشق في كل ميادين العمل التي سجل فيها أمثلة للشرف ونظافة اليد لا تزال مضرب مثل في الأوساط السياسية والشعبية، فقد كان فقيد الوطن الكبير المهندس فيصل بن شملان الرجل الذي لا يرضى بغير ما يرضاه أبناء شعبه، ولذلك فإنه سارع إلى مغادرة البرلمان عندما قرر تمديد فترته لعامين، لأنه وفي لإرادة الناخبين، ويحترم العقد الذي بينه وبين مواطنيه، فضلاً عن المواقف الرجولية المتعددة التي سجلها في رصيده المشرق، ويجري تداولها في كل الأوساط كإشارات لأنموذج الرجل الوطني من الطراز النادر.
إن السجل الناصع لفقيد الوطن الكبير جعله الرجل الوحيد الذي حظي باختيار النخب السياسية والوطنية ليكون المنافس الوحيد والأقوى لرئيس الجمهورية في الانتخابات الرئاسية 2006، والتي لم تفلح خسارته فيها في ثنيه عن مواصلة ملامسته المستمرة لقضايا الوطن، بالرغم من استفحال المرض الذي لا شك أنه كان الاصطفاء الإلهي لرجل من شأنه الطبيعي أن يلحق بالأخيار في الفردوس الأعلى، وبوفاته خسرته صديقاً عزيزاً شريفاً ومناضلاً صلباً.
رحم الله فقيدنا الكبير.. وأسكنه فسيح جناته، وتقبله مع الصالحين في عليين، وألهمنا وإياكم وكل ذويه ومحبيه الصبر والسلوان. "إنا لله وإنا إليه راجعون".
                                                                        *الرئيس/ علي ناصر محمد