ما تبقى من الموت

ما تبقى من الموت

* عبد الباسط عبدالله مقبل
"عامٌ سعيد يا رُبا".
كانت عبارة تحدٍّ للموت وانتصار للحياة، ووقفة باسمة في حماقة الدمار.. كانت تذكاراً جميلاً لتلك الأحايين التي صادرت الحبيبة والمواعيد والأحلام.
"عامٌ سعيد يا رُبا".. تنهدت بها روح "زكريا الكمالي" المكلومة، وكعادته بقي ودوداً وطيب القلب ويحفظ بدقة ساحات الأمكنة اللائقة للبكاء.. فكان يتضارب مع صخب البكاء في أعماقه ويقاوم أنفاسه التي كانت تحثه على إباحة نواح ألمه لكل الساحات التي استلمت له وجهاً تائهاً في انكسار أمل عظيم.
حين رأيتُ ذلك شعرت أن احتراقات فُقد قديمة في وجوه (الأحبة) صَنَع القات وجهاً منها للعزيز زكريا.
كان ذلك على أساس أنه لم يسبق لي أن رأيت وجهه –هكذا- مطبوعاً في أسى عميق، ولم أكن على علم أن أعماقه في تلك اللحظة كانت تشتعل في ذكريات الحبيبة.
وددت بيني وبين نفسي لو سألته قبل أن يغادر بصري عن كل هذا الحزن وكل هذا الأسى الذي كان يُحمل في وجهه رغم أنه مازال قلماً شاباً ينبض فيه زمن رائع للكلمات.
الانكسارات العظيمة للآمال التي طوتها تجاريب الحياة في روحي، أخذت تلمع في (قلم لن يجف حبره) كما يحلو للحوار بيني وبيني أن يصنّف زكريا الكمالي الإنسان النبيل.. وفيما أنا أتهيأ لالتهام هذه التجارب مرة أخرى في الكلمات وقعت على أوجاع عبارته.
"عام سعيد يا رُبا"...
لم أكن على علم -قبلها- أنها خرجت من دم القلب وضجيج آلام الأوردة وانجراحات الدمع.
قلت: إنها كلمات جديدة يكتبها قلم أحبه، واستمر الحال –هكذا- إلى أن وجدت زكريا (يتهرول) في أمنيات السعادة والأحزان وتقبل العزاء بطيبة القلب وودِّه.
إنه الموت -إذن- يكتب هذه الكلمات الدامعة، قلتها وأنا أراه يقف على عِشرة انتظار رجعة الحبيبة من ساحات الرقصات الموجعة.
لقد ماتت رُبا، -قلت لنفسي- حب زكريا العظيم.. ولم أضع لي سلاماً في ركام العزاء الذي يحمل في قلبه الكليم.
"حب القلب أبقى" –قلتها لنفسي- وهو عزاء لي وله، ومواساة كذلك.. غير أنني بقيتُ حزيناً عليه. وفي تلك الدموع التي راحت تكبر في كلماته وتتحشرج في صوتي، خُيّل لي أن حبيبته لو رأت تلك الوقفات له وخطوات الخيبة والهزيمة للأمنيات تتمخطر في حركته، لصرخت بكل وجودها:
"عام سعيد يا زكريا" مع امرأة أخرى تتوسد لجراحك.. دع الموتى يعيشون مع الموتى ولا تقاسمهم أزمانهم. أنت على قيد الحياة وبين نساء كثيرات ستجد من تهبك أغاني الوجود.
"عام سعيد يا زكريا".. ستقولها حتماً لو رأت أي عذاب ترك لك الرحيل.
"عام سعيد ستقولها حتماً يا زكريا".. وستتوسل إليك قائلة "عش حياتكـ".. فلقد رضيت بنصيبنا في الحياة أن تبقى وأن أمضي.. ولن أرضى لحياتك غير أن تتجول في مدنها وتحت سماء الله وسحبه وأمطاره... وأن تتناءى عن مدن الموتى، فإن كان لك حب لي فهو حب الحياة.
لا تقترب إذن من مدن الموتى قبل أوانك أو في الأحايين التي تريد أن تمتلئ كلماتك بمعاني الموت والحياة.
عام سعيد (لك) يا زكريا.. وأنت تعزف أوتار أغانينا وتتلقف أصوات أوقاتنا الراحلة، وتبيح روحك وجسدك لصخب البكاء..
لكن هذا لا يساير الحياة والأحياء، فشارك الناس الأوقات السعيدة (فهذا قدرك)، ودع لي (فقط) البقاء معك عطراً لأوقات الحاجة.. أسكبه تذكارات للأمكنة التي احتضنتنا.. لا تنزح أوجاعك وألمك في غير أحضان امرأة تضج فيها الحياة، كن عند مستواك الذي عهدته، فقد كنت (أنت) أكبر من الموت، وعهدتك أنك ابن الحياة، فكن كذلك وابتهج، فأوان موتك مازال بعيداً، ولا يحق لك أن تشارك الأموات في القبور.
<<<
لك الله يا زكريا.. قلتها وأنا أتحشرج في دموع كلماتك وآهات وجعك.
لك الله.. ولك رحمة من لدنه تغشاك وأنت تتلقف ما يتناهى إليك من أصوات أطياف الحبيبة، فتصرخ في وجه الموت:
"عام سعيد يا رُبا".
لك الله.. وأنت تتوجع في مواعيد اختلت آجالها.
لقد مضت الحبيبة وحدها –على أية حال- وبقيت أنت وحدك تتمنى السعادة لحبيبة اعتصرت في قبضة الموت وهي تتمنى لك الحياة، ولو كان ذلك بيدها لما ذهبت دون وداع، ولما توانت عن إعطائك شيئاً من ابتساماتها وضحكات روحها في عرسك القادم، وتمنياتها أن تتيسر طريقك إلى حضن امرأة تتوسد ببهجة أوجاعك وألمك.
ولن تطلب منك أكثر من أن تجعلها (ملهمة) في منافي حروفك، وساحة الذكريات، وحيث تكبر في ظلال أحزان الجراح النازفة والسباحة في الكلمات..
أتمنى يا زكريا أن يصيب داء النسيان منابع ألمك حتى ينهزم الموت وتنتصر الحياة والأحياء، وحتى لا نجعل من أحبابنا مقابر للوجود.. اطوِ إذن ألمك وكن في قوة الموت لا يبالي بأصداء الأنين وبكاء أحبة من يقبض روحه.. فذلك هو قانون الوجود. حياة وموت.. أسأل الله –جلّت قدرته- أن يلهمك طرقات الحياة.. وصبر جميل وعزاء أجمل.. ولك كل الحب.. ولرُبا العيون الجارية والقطوف الدانية.