هكذا كان أبي

بعدما هدنّي التعب، دخل أبي لصلاة المغرب وأنا أمشي خلفه بخطى متثاقلة، جراء السير المتواصل.. كنت حينها صغيرا، في التاسعة تقريبا.. بعدها واصلنا السير، ليتوقف أبي أمام لافتات الأفلام المعروضة في المجمع السينمائي بحدة.. وفي حين كانت عيناه لا تزالان تتأملان الصور، قال لي بحسرة: الوقت متأخر، وإلا كنا دخلنا للمشاهدة..

من حينها، انفتحت عيناي مبكراً على عالم جديد، وحتى الآن أجد في الأفلام السينمائية واللوحات الفنية، ترويجاً هادفاً لقيم الخير والحق والجمال، تُغني عن آلاف الخطب والمواعظ.

في بدايات الشباب، كنت دائم الخلاف مع أبي، كان هو أيضاً يراني متمرداً ولا مبالياّ، وكثيراً ما شكاني للآخرين، وهو ما أدى لتباعد المسافة بيننا.. وذات يوم وقف يشكوني لأحد الجيران، وبعدما أنهى كلامه.. نظر الرجل إلى أبي مندهشاّ وقال: إذا كنت منزعجاً من ابنك، فكيف الحال مع أبنائنا... لو كان " وليد" إبني، لجعلناه ملكاً علينا.. عندها انفجر الحاضرون في الضحك.

بعد سنوات، وكعادته، خرج أبي للصلاة في المسجد، كنت حينها أسكن الدور الأول، ولأن الباب كان مفتوحاً، توقف قليلا عندما رآني قائماً للصلاة، ثم واصل سيره، لأواصل بدوري الصلاة، وعندما التقيت به في وقت لاحق من ذلك اليوم. نظرت في عينيه، واستشعرت كم كان ممتلئاً بالرضا والامتنان.

وفي سنواته الأخيرة، أصبح الموت والاستعداد له هاجسه الأكبر، وأثناء إحدى المناسبات، جلس متحدثاً إلى عمي الصغير، عن جانب من سيرته الحياتية، رغم كونه صموتاً، نادر الكلام.. كنت بجانبهما، وأدركت أن أبي أراد توصيل رسالة لي أنا، عن طريق عمي.. وتأكد الأمر عندما أخذ يستطرد - وهو لا يزال ينظر لعمي - متذكراً ما كان يراه من "مواهب" لدي، وكيف كان يستعين بي في شؤون عمله ومدرسته التي كان يديرها.. كان أبي يريد إزالة الحاجز النفسي بيننا والذي ازداد كثافة مع تعاقب السنين.

قبل عام من غفوته الأبدية، وكنت واقفا أمام بيتنا.. أخذ أبي يحدثني عن أمور مختلفة، كانت أشياء عادية، لكنه كان يرغب مجرد الحديث معي.. شعرت حينها بقرب وفاته، وتملكني إحساس جارف بضرورة أن أبدي مشاعري تجاهه... فانحنيت أُقبِّل رأسه.. استمر أبي في حديثه، لكني لمحت أن عينيه تغرقان بالدموع، واحتواني شعور دافئ ومريح لكوني استطعت تجاوز الحاجز النفسي، وأقول له: أنا أيضا أحبك يا أبي.