النداء و"القطعة الناجية"!

صفحات من أرشيف النداء
صفحات من أرشيف النداء

أن تلمس ورق الصحيفة التي كنت، ومازلت، تعمل فيها، ولو بعينيك، فمتعة لا حدود لها!
منذ نحو أسبوع وأنا يوميًا أجرب هذه المتعة بفضل رسائل يومية تصلني من زميلي وصديقي طارق السامعي، مخرج "النداء" الورقية منذ إصدارها الأول حتى توقفها القسري في مايو 2011.

كيف؟

آخر عدد صدر لأسبوعية “النداء” كان في نهاية مايو 2011، وحمل الرقم 275. بعدها فشلت كل المحاولات لاستئناف الصدور جراء الحرب “المصغرة” بين مؤيدي الرئيس الأسبق صالح ومعارضيه أو من أطلق عليهم “أنصار الثورة”، في 2011، ثم جراء الحرب الكبرى في مارس 2015!

نجم عن محاصرة مقر "النداء" في يونيو 2011، بمسلحين موالين للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، عدم قدرة فريق العمل وضمنهم طارق السامعي وسليم الخطيب وعلي الخطيب، المسؤولون عن تجهيز وإخراج الصحيفة فنيًا، على الوصول إلى المقر.

في وقت لاحق، تم اقتحام المقر من قبل المسلحين ونهب جميع الأجهزة بما فيها جهاز الماكنتوش الرئيسي الذي يتم فيه إخراج الصحيفة. لقد سرق جهاز الماكنتوش الآخر وأجهزة الاسكانر وغير ذلك من أجهزة كمبيوتر وفاكس وتلفون…

نسي المقتحمون قطعة واحدة أسفل طاولة الزميل طارق. وقد نقلها الزميل هلال الجمرة، في يناير 2012 (تاريخ اكتشاف السطو من العاملين في شركة في مكتب قبالة مكتب "النداء")، إلى منزل أسرتي في حارة الزراعة (إذ كنت وقتها خارج اليمن)، وقد استلمها أخي سمير، واحتفظ بها طيلة السنوات العشر اللاحقة، قبل أن يغادرنا إلى دار البقاء في منتصف 2021.

في أغسطس 2023 طلبت من مروى (ابنة سمير) تصوير ما احتفظ به والدها، الله يرحمه، من البقية الباقية لـ”النداء”. وقد أرسلت لي في اليوم التالي صورة تظهر فيها “القطعة الناجية”، فتبين انها “هارد” الجهاز الرئيسي.

أرسلت الصورة إلى طارق ليقرر ما إذا كان هناك فرصة لفحصه. ولما كان الهارد يتطلب لفحصه شاشة وكيبورد، فقد تولت مروى الشراء بعد مشورة المخرج طارق.

في نهاية أغسطس الماضي اتضح أن ملف أعداد "النداء" نجا من “سطو الشرعية”! معلوم أن المسلحين الموالين للرئيس الأسبق المتجمعين في مساحة أرض خالية جوار المبني الجديد -غير المكتمل- لمجلس النواب في عصر، غير بعيد من مقر "النداء" في شارع الزبيري بالقرب من شركة سبأفون، هم وقتها المدافعون -حسب شعاراتهم- عن الشرعية الدستورية ممثلة بالرئيس.

بعد 4 أشهر، أي قبل أسبوعين بالتحديد، طلبت من طارق فحص ملفات الهارد، ونقل نسخ الأعداد إلى “فلاش” وإرسالها إلى الزميل رياض الأحمدي لتحميلها في الموقع الجديد، لتمكين القراء، والمتصفحين، من الاطلاع عليها. وهو إذ أنجز المهمة بكفاءة، فقد أرسل لي، عبر الواتس، عينة من أعداد "النداء"، بدءًا من الأعداد الناجية من خريف 2005.

كانت هذه أغلى هدية أتلقاها في نهاية العام 2023. وقد أرسلت نسخًا من أعداد مختارة للزميلين هلال الجمرة وعادل عبدالمغني. كما أرسلت بعضًا من هذه الأعداد لاثنين من أبرز كتاب "النداء" منذ 2005، هما أروى عثمان ومنصور هائل. ولم أنسَ مجموعة من الأصدقاء بعضهم نشر كتابات في "النداء" كالصديق العزيز مصطفى أحمد نعمان.

خلال هذا الأسبوع عشت مشاعر اعتزاز لا توصف، إذ أقرأ كتابات منتظمة للدكتور أبو بكر السقاف، رحمه الله. لقد قرر فور استئناف “النداء” عقب محنتها الأولى (سحب عددها الأول وإلغاء ترخيصها وتوقفها مدة 6 شهور) الكتابة للصحيفة دون طلب مني، فكان ذلك هو الوسام الذي كنا نفخر به، ويشد من عزمنا في مواجهة القمع والحصار متعدد الوجوه طيلة سنوات الإصدار الورقي. وإلى السقاف، صادفت كبارًا في الثقافة والسياسة والفن، كالرواد الراحلين عبدالعزيز المقالح وعبدالله البردوني ومحمد عبدالقادر بافقيه وفيصل بن شملان.

كثيرة هي الأسماء والوجوه التي قابلتها مجددًا. وكثيرة هي المواقف والقفشات التي عشتها مجددًا رفقة الزملاء الأحبة، وأبرزهم الراحلان المقيمان بشير السيد وفهمي السقاف.

 

بشير السيد وفهمي السقاف
بشير السيد وفهمي السقاف رحمهما الله

وكثيرة هي الوجوه التي تشير إلى قضايا اشتهرت بها "النداء"، وتميزت كالطفل شرماركي والسجين المفرج عنه عبده شوعي، والأول طفل صومالي تقيم أسرته في حي البساتين بعدن، والآخر سجين من تهامة قضي في السجن 17 سنة ظلمًا جراء فهم مغلوط وكارثي للقانون من قبل رجال العدالة (قضاة ورؤساء وأعضاء نيابة ومديري سجون) يتم بمقتضاه إبقاء السجين في السجن رغم انقضاء مدة سجنه، بزعم عدم قدرته المالية على سداد غرامات أو مبالغ للغير. لقد حررت "النداء" عبده شوعي ومئات السجناء جراء ملف “السجناء المعسرين” الذي تولاه بداية الزميل علي الضبيبي، ثم في سنوات لاحقة الزميل هلال الجمرة.

سمير غالب ومحمد عبده العبسي رحمهما الله
سمير غالب ومحمد عبده العبسي رحمهما الله

إلى زميلاتي وزملائي في "النداء"، وإلى كاتبات وكتاب "النداء"، وإلى الراحلين المقيمين سمير غالب وأبو بكر السقاف وعبدالله المجاهد (الفنان الذي صمم ترويسة الصحيفة) وبشير السيد وفهمي السقاف ومحمد عبده العبسي، أهدي هذا المقال.