فصل المقال في القضية الفلسطينية وفي التطبيع

"إن الغرب، وفي مقدمته أمريكا، يتخلى دائمًا عن النخب المتمسكة بالحداثة في مناطق وبلدان استعمرها أو توجد بها مصالحه، بينما يجد دائمًا مع قوى التخلف في هذه البلدان تسويات وحقول تفاهم ومصالح متلاقية... وإن مأساة الغرب اليوم عمومًا اليوم كما بالأمس ومنذ قرون، هي في أنه على الدوام حائر بين رغبته (المزعومة -الكاتب) في تمدين العالم، وإرادته في السيطرة عليه، وهذان أمران لا يمكن الجمع بينهما".

أمين معلوف "اختلال العالم"، ص٦٤-٦٥، نقلًا عن عارف الدوش، "صيد القلم"، السبت ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٣م.

كنت أرى وأكتب وما أزال، أن التطبيع مشروع أيديولوجي وسياسي واقتصادي استعماري غربي، أي أن التطبيع مؤامرة/ مخططات سياسية مكتملة الأركان ضمن المشروع الصهيوني التاريخي، وصولًا إلى مشروع الشرق الأوسط الجديد الأمريكي/ الصهيوني، لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما بشرتنا به كتابات قادة الحركة الصهيونية، من "هرتزل" إلى "شمعون بيريز"، في كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، وصولًا إلى "نتنياهو" في كتابه "مكان تحت الشمس".
وكانت البداية للتطبيع المجاني، مع الرئيس أنور السادات، مهندس عملية انتقال مصر، بل كل المنطقة العربية؛ من تاريخ إلى تاريخ آخر.. انتقال من التوازن والتماسك الوطني المقبول، والحد الأدنى من التضامن القومي العربي، حتى الوصول إلى التشرذم والتبعثر والضعف والتبعية، التي تغطي وجه المنطقة العربية كلها، من "الجامعة العربية"، التي لم تعد عربية، بل "شبه عبرية"، ولا جامعة للعرب، وصولًا إلى الحالة الميئوس منها في صورة النظام السياسي العربي التابع.
لقد ذهب الرئيس أنور السادات، ضحية وهمه الذاتي؛ السياسي والأيديولوجي القاتل، والذي استكمل من بعده آخرون مشروعه، باتفاقية "أوسلو ١٩٩٣م"، تحت ضغط تطورات سياسية سلبية فلسطينية، وتحولات إقليمية ودولية، متمثلة في سقوط الاتحاد السوفيتي، وغياب العالم ثنائي القطبية "الحرب الباردة"، الذي كان يحافظ على حالة من توازن المصالح في العلاقات الدولية.
"أوسلو"، التي أسقطها الكيان الصهيوني، والتي قدمت فيه ومن خلاله القيادة الفلسطينية السقف الأعلى من التنازلات، حتى لم يبقَ بعده ما يمكن التنازل عنه، سوى التخلي النهائي والمطلق عن أي حق في الأرض الفلسطينية "المشي عاريًا"، تحولت معه السلطة الفلسطينية إلى عبارة عن جهاز أمني للتخادم مع الكيان الصهيوني "التنسيق الأمني"، ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة، بل ضد كل القضية الفلسطينية!
بل إن البعض وصل به الأمر حد السقوط السياسي والأخلاقي والقومي، بالمجاهرة بالمطالبة بـ"محاسبة حماس"، وليس بمحاكمة الكيان الصهيوني أمام "محكمة الجنايات الدولية"، على جرائم الحرب، وجرائم الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، في غزة، وفي الضفة الغربية، التي يدعي البعض زورًا أنه يديرها ويحكمها، عبر التنسيق الأمني! وهو الذي لا يستطيع مغادرة الأرض الفلسطينية المحتلة، إلا بأمر من الأجهزة الأمنية الصهيونية.. في الوقت الذي يعلن فيه "نتنياهو" صراحة، وخلال أيام عدوانه على غزة، والضفة، في هذا الشهر، ديسمبر ٢٠٢٣م، أنه لن يسمح بوجود "فتحستان" في دولته.
ومع ذلك، مايزال هذا البعض من الفلسطينيين، يحلم بالوصول لما تسمى "السلطة الفلسطينية"، ولو على ظهر الدبابة الصهيونية!
نماذجه البائسة؛ أبو مازن، " عباس"، ومحمد دحلان، وابن الشيخ، ومن لف لفهم، من هذه الجماعة التي ماتزال تراهن و"تنسق أمنيًا" مع المحتل ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة، لأنهم كما يرى أبو مازن أنه ضد "عسكرة الانتفاضة"، كما كان يقول، وهو عمليًا وفعليًا، ضد "حركة التحرر الوطني الفلسطينية المسلحة/ المقاومة المسلحة، كما يعلنها صراحة" وباسم -مع الأسف- "منظمة التحرير الفلسطينية"، المختطفة، والمستلبة الإرادة والقرار، والتي استحالت إطارًا لتحريك "المعاش التجاري اليومي"، للقيادة المتنفذة، رغمًا عن إرادة الشعب الفلسطيني، في "الضفة" و"غزة" وفي الخط الأخضر، وفي كل الشتات الفلسطيني!
لقد فتحت "أوسلو" الباب واسعًا أمام بعض المترددين، والمنهزمين من الداخل، المتحينين الفرص لاستكمال ما بدأه السادات، وبالأمر الأمريكي، و"التطبيع الإبراهيمي" هو الفصل الثاني العبثي من مسرحية جريمة التطبيع الفاشلة، والذي نتمنى أن يكون الفصل الأخير من المسرحية الدموية، بعد أن كشفتهم وعرتهم حركة أو انتفاضة السابع من أكتوبر، أمام شعوبهم وأمام العالم أجمع، وبعد أن تحول "جيشهم الذي لا يقهر"، إلى أضحوكة أمام كوكبة صغيرة من المقاومين الفلسطينيين.. "التطبيع الإبراهيمي" الذي ولد ميتًا، وجاء السابع من أكتوبر ليهيل عليه التراب، وليصلي عليه صلاة "نجاسة الغائب"، وهو التطبيع الذي جيء به ليستكمل ما بدأه السادات من تفكيك وتدمير لأوصال المنطقة العربية، انطلاقًا مما تسمى "صفقة القرن" السياسية.. صفقة سياسية، غربية استعمارية، صهيونية، وبتواطؤ كامل من النظام السياسي العربي المتصهين، وما يجري ويتحقق في فلسطين طيلة أكثر من خمسة عقود من الزمن، بل منذ "النكبة"، حتى حصار غزة لأكثر من سبع عشرة سنة، وتحويل معظم أراضي "الضفة الغربية" إلى مستوطنات، ووضع سكانها تحت رصاص وقنابل وحرائق المستوطنين للمساكن، والمزارع، حتى حرب الإبادة الدموية العسكرية الجارية،" التطهير العرقي/ والتهجير القسري" في غزة، الذي لا نراه سوى أنه استمرار لاستكمال تلك البداية السياسية التي ولدت بـ"عملية قيصرية"، أمها الشرعية الصهيونية، والغرب الاستعماري، و"والدها السفاح" هو أنور السادات، ومن جاء من بعده ليحمل الراية من المطبعين "الإبراهيميين".
لقد حاول السادات أن يجبر الشعب المصري، على نسيان جريمة التطبيع، بعد تصويرها بأنها "السلام والرخاء".. لقد حاول دون جدوى أن يروضنا؛ مصر الشعب، وكل العرب، للقبول بتطبيعه السياسي والاقتصادي والثقافي الخاص به، وأن يلغي مفردات ومفاهيم "الثقافة القومية التحررية"، و"مفاهيم الأمن القومي العربي" و"الاستعمار الاقتصادي الجديد"، من قاموسنا السياسي والوطني والقومي.. حاول عبثًا أن ينسينا ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، وأن يغيب ويطمس إعلاميًا صورة، ورؤى الرئيس الخالد جمال عبدالناصر، فكان لهما الخلود في التاريخ، ولتطبيعه العبثي، وله ذاكرة المأساة والنسيان، إلا بما يحمله التاريخ من معانٍ ودلالات سلبية.. وعلى ذات الطريق، يسير محمد بن سلمان، الذي كل ما يعنيه وما يهمه من القضية الفلسطينية (كما يفهمها)، هو فقط، "تحسين شروط وجود الفلسطينيين"، في ظل استمرار الاحتلال، كما تحدث بنفسه مع قناة "فوكس نيوز"، وليس مقاومة وإسقاط وإزالة الاحتلال، الذي لم يفهمه، ولا يعني له شيئًا، لأنه لم يتربَّ عليه، فكريًا وثقافيًا ونفسيًا ووجدانيًا.. وهذا هو أسوأ وأعنف تطبيع يأتي إلينا، بعد دمار وخراب الأرض الفلسطينية، وعلى أنقاض جثث عشرات الآلاف من القتلى/ الشهداء (الأطفال، والنساء)، وأكثر من خمسة وخمسين ألفًا من الجرحى والمعوقين، وتدمير البنية التحتية، وتجويع وتشريد أكثر من مليون من أبناء غزة، وتدمير ٩٥%، من المستشفيات في جميع مناطق غزة، فعن أي تطبيع بعد ذلك سيتحدثون؟! تطبيع يأتينا من أرض مدينة الرسول (ص)، وباسم "السلام الإبراهيمي"، وكأننا أمام دين "إسلامي جديد"!
إن محمد بن سلمان (ولي العهد السعودي)، الذي تجرأ على حمل عار التطبيع المجاني، وهو في خطواته الأولى في السير نحو حكم مملكة آل سعود، إنما هو بذلك الفعل الشائن، يتنكر ويتخلى سياسيًا وعمليًا، عما تسمى "المبادرة العربية" التي تقدم بها عمه الملك عبدالله، باسم الجامعة العربية!
وهنا يلتقي التطبيع الساداتي، و"التطبيع الإبراهيمي"، من السادات، إلى محمد بن زايد، إلى محمد بن سلمان.. رحلة عار أوصلتنا إلى هذا المآل المأسوي الذي نعيشه اليوم، بل إلى ما هو الأسوأ في المستقبل.
ويمكنني، كخلاصة وكفصل للمقال، القول: إن السادات يتقدمهم بدرجة صفرية في البيع المجاني، في أنه ذهب للتطبيع تحت وهم أيديولوجية زائفة، "ثأرية"، جزء كبير منها رد فعل سياسي ضد قادة وفكر ومبادئ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م الثورية والتقدمية، في شروطها السياسية والتاريخية.. ذهب إلى ذلك التطبيع تحت شعار وغطاء جلب "السلام" والرخاء والتنمية لمصر، ولم يحصل على شيء؛ سوى الخيبة والخذلان لمصر، ولكل المنطقة العربية.
أما شيوخ وأمراء" البترودولار"، فذهبوا تحت عصا "ترامب" وصهره "جاريد كوشنر"، تحت مسمى "صفقة القرن"، ذهبوا ليستكملوا بيع الأرض الفلسطينية والعربية بالمجان، وبدون مقدمات، الأرض التي لا تخصهم، وفي ملكية شعوب ودول عربية أخرى.. يبيعون حقًا لا يملكون فيه ذرة من التراب، لمن لا يستحق، لمغتصب ومحتل لأراضي الغير بالقوة، تحت وهم الحفاظ على بقاء عروشهم ودويلاتهم المرتعشة، والمحروسة بالقواعد العسكرية، وبالجيوش الأجنبية، التي تطوقهم من جميع جهات الاحتلال!
ولا خيار أمامهم جميعًا: المطبعين القدماء والجدد، سوى احتضان القضية الفلسطينية، والدفاع عنها، فهي آخر حصن قومي عربي حامٍ لهم، بعد الارتهان والاحتماء بشعوبهم، التي يجب أن يعودوا إليها في اتخاذ مثل هكذا قرارات مصيرية واستراتيجية.. فلم ينفع، ولم يحمِ الغرب الاستعماري، "شاه إيران"، وغيره من أعوانهم الخلص، حتى إنهم رفضوا استقبال "الشاه" وأمثاله العشرات، تُركوا يواجهون مصائرهم منفردين وعزل أمام شعوبهم، وأمام التاريخ الذي لا يرحم، فمكر التاريخ قاسٍ وفاجع لمثل هؤلاء الحكام، الذين لا يدركون أن مراهناتهم على الاستعمار الأجنبي، هي بداية نهايتهم، فلا تغرنكم حالة القوة الوهمية التي تستقوون بها مؤقتًا على شعوبكم.
هل نستوعب الدرس؟