المرأة والتنمية المستدامة

المرأة هي مصدر ومحور كل تنمية مدنية وثقافية وحضارية ممكنة، ولا تنمية مستدامة بدون تمكين المرأة وإشراكها الفاعل في مختلف فعاليات الحياة الاجتماعية، فالتنمية شراكة مجتمعية، والمرأة هي وطن الأوطان كلها، أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان، والحبيبة الحضن الدافئ والسكن الحميم ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب، هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل العائلة والبيت والمنزل، وما لكل ذلك من دلالات اجتماعية وسيكولوجية.

إن التفكير بالمرأة هو التفكير بالكائن الإنساني الحقيقي جدًا، الأم والزوجة والأخت والبنت والعائلة والمجتمع والمؤسسة والوطن والدولة والرعاية والتربية والحب والحنان والسعادة والتسامح والأمل والحاضر والمستقبل. إذ كلنا ولدنا من أرحامهن، ورضعنا حليبهن، وتربينا في أحضانهن، وتعلمنا برعايتهن، وعرفنا لذة الحياة بهن، ومعظم أحلامنا بهن، ونعيش من أجلهن، ونفرح بنظرة واحدة منهن، ونسعد بابتسامة واحدة من أعينهن، ونكتب أجمل قصائدنا من وحيهن وفيهن ومن أجلهن، ونكتب أروع الروايات فيهن وفي مداراتهن، ونستمد ثقتنا بذواتنا منهن، ونشعر بالسكينة والأمن والأمان معهن، ونتمنى إرضاءهن ورضاءهن والجنة تحت أقدامهن، والبعض منا يعبد الله من أجل الفوز بأكبر عدد منهن في الآخرة، ومع ذلك مازال بيننا من يحتقرهن ويفتكر حاله أفضل منهن. أية ثقافة تلك التي شكلت مجتمعاتنا العربية والإسلامية تجاه النساء؟ بأي منطق يفكر ذكور العرب والأفغان في النساء؟ وبالمناسبة أكدت الدراسات الميدانية أن ٩٠٪؜ من التفكير الذكوري العربي هو في المرأة ومداراتها الدنيوية والأخروية. هنا تأتي خطورة الصورة النمطية التي نمطت أداور النساء والرجال عبر التاريخ البطريركي العام، إذ مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني على كوكب الأرض، لم تكن فيه المرأة "حواء" شيئًا مذكورًا أو جديرًا بالاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته، بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف، وصانع التاريخ، وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ومبدع الثقافة وباني الحضارة، وحامل الأمانة المقدسة، وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون، ومروض الوحوش، وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات، إذ كانت كل الصفات الإيجابية التي تدل على الفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والإنجاز والانتصار والعنف والحرب، تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريب، وظل مفهوم الإنسان يطلق على الرجل فقط، وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما في ذلك الكائن الإنساني الآخر الشبيه به تمامًا -أي المرأة الأنثى- تدور حول فلكه الذكوري، وتسخر لخدمته، وتخضع لمشيئته البطريركية. وعلى مدى آلاف السنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة، ترسخت الهيمنة الذكورية والقيم البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات، حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها.

رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان "الرجل"، تعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جدًا، إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثونها جيلًا بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك، أو "الهابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.

يقول عالم النفس التربوي الأمريكي آرثر كوفر في كتابه "خرافات في التربية": "يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصًا أمينًا فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقًا لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة، فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر" (آرثر كوفر، خرافات في التربية، ترجمة: عبدالمجيد شيحة، عالم الكتب، القاهرة، ط1، 1990م، ص1).
ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره، فحينما اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة، الـyang يرمز إلى مبدأ الذكورة، والعنصر الإيجابي الفعال المنتج السماوي، وعنصر الضوء والحرارة والحياة، والـyin يرمز إلى الأنوثة، العنصر السلبي المنفعل، الأرضي، عنصر الظلمة والبرودة والموت. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون، الذكورة والأنوثة، أي اليانج والين (وال ديورانت، قصة الحضارة: الشرق الأقصى، الصين، ج4، م1، ص17)، كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري، أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة، ويمنح الرجل الذكر مكانة أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون، وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد، وأن المرأة كائن حسي غير عاقل، برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام أن الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال، شرعوا عادة وأد البنات... وحينما يعتقد أن جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات، فلا بد أن تختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال. هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لا بد من الذهاب إلى ما وراءها، من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية، كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليست مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأت وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس (Habitus) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية.

وفي سبيل التعرف وفهم أسباب التمييز والعنف ضد المرأة، يلزمنا البحث في الشروط السوسيوثقافية، كما أكدت فاديا كيوان، رئيس منظمة المرأة العربية، في مداخلتها الرصينة، إذ قالت: "الثقافة هي في آن واحد نتاج المجتمع والإطار الذي تنساب سلوكيات أفراده فيه، والثقافة تنتقل إلينا من بيئتنا المباشرة عبر العلاقات مع الأهل والجيران..، إلخ، والذي ينتج منها العادات والتقاليد والمعتقدات المتوارثة، وهي تشكل منظومة ثقافية"، وهذا ما نود مقاربته هنا.

إذ يرتبط العنف ضد المرأة في مجتمعاتنا العربية التقليدية، بالتمييز الجندري، الذي يضع هوة سحيقة بين ذكور وإناث النوع الإنساني ضدًا على الفطرة الطبيعية التي وهبها الله للكائن البشري بالتساوي؛ إذ يبدأ التمييز العنيف ضد المرأة منذ لحظة الإخصاب الأولى في رحم الأم، حيث ترفع الأيدي بالدعاء لله بأن يكون الجنين ذكرًا لا أنثى، وتظل الأم الحامل في حالة قلق وتوتر طوال مدة حملها بشأن هذا الكائن الذي بدأ يتحرك في رحمها! خشية من غضب الزوج وذويه، ولا يزول القلق إلا في لحظة الولادة، حيث يبلغ التمييز أوجه، بانشراح الأسارير وإطلاق الزغاريد بالقادم الجديد إذا كان ذكرًا، بينما تعبس الوجوه وتذرف الدموع ويعم الحزن والغضب والتجهم إذا كان المولد الجديد أنثى، وبهذا تواجه الأنثى منذ لحظة ميلادها أول صدمة عنيفة في حياتها، صدمة تتمثل برفض المجتمع لوجودها بوصفها كائنًا غير مرحب به، ولا بد من وأدها بالمهد، كما كان يفعل العرب قبل الإسلام، غير أن العقلية الذكورية المهيمنة ابتكرت طرقًا شتى لممارسة وأد البنات بعد الإسلام الذي حرمه؛ الوأد الرمزي، إذ يتم وأد الجنين الأنثى بعدم الترحيب بميلادها وبإخفاء خبر مجيئها، بعكس المولود الذكر الذي يعد ميلاده في العائلة العربية موسم احتفال مستمر منذ الصرخة الأولى والختان والتهاني والهدايا والزيارات التي تستمر مدة أربعين يومًا وأكثر! منذ ذلك الحين يتم وأد أنثى الإنسان بالمزيد من الإخفاء عبر التمييز الجنوسي باختيار الملابس والألعاب، والإهمال، والقسوة في التربية، والتحقير والتخجيل من جميع أفراد العائلة، ومن ثم الحرمان من اللعب الحر في الشارع والفضاء العام كما هو حاصل في بعض الدول العربية الأشد تخلفًا، والتي تحرم على البنات الخروج للعب في الشارع والكلام مع الغرباء، والحرمان من التعليم، وإجبار الفتيات على البقاء في البيت حتى يأتي العريس الذي يتم تدبير أمره برغبة أهلها دون علمها وبغير إرادتها، قبل بلوغها سن النضج، وقد شهدت اليمن ودول الخليج حالات لا تحصى من زواج الصغيرات، وبعضهن يتم ربطهن منذ الولادة في ما يعرف بزواج المبادلة.
هذا التمييز يصاحبه دائما حالة من العنف والقسوة في التعامل مع الإناث بالضرب والتوبيخ والتحقير والاستعباد من قبل الأمهات والآباء والإخوان الذكور، ومن قبل الأزواج والمجتمع كله. وتتعدد أنماط العنف والتمييز ضد المرأة في مجتمعاتنا العربية، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحقوقية والأخلاقية... الخ، بحرمانهن من حرية اختيار أبسط خصوصيات حياتهن، الكلام والزي واللعب والألعاب والدراسة والزواج والعمل والمشاركة في الشأن العام والسفر والسياحة، وما يصاحب ذلك من أنماط العنف المادي والرمزي، العنف الجنسي والخطف والاتجار والاغتصاب والقتل خارج القانون، والعنف الاقتصادي بحرمانهن من العمل وجعلهن جواري يخضعن لشهوات الذكور وخدمتهم في المنزل وخارجه، والعنف السياسي بحرمانهن من حقوق المواطنة والانتخاب وتقلد المسؤوليات القيادية، والعنف القانوني والأخلاقي بوجود تشريعات تنقص من حقوقهن وكرامتهن، والعنف الأخلاقي والجمالي في النظرة إلى المرأة بوصفها موضوعًا للرغبة والمتعة فقط في البيت أو الشارع أو المدرسة أو الجامعة، أو العمل، أو السوبر ماركت، إذ يتم التحرش بهن ومطاردتهن بالعيون والأيدي والأرقام والسيارات وعبر وسائط التواصل الاجتماعي... الخ، دون أن يجدن من يحميهن. وهذا ما يستدعي تضافر الجهود الرسمية والمدنية في تمكين المرأة العربية من حقوقها الطبيعية والمدنية (حق الحياة والتعليم والعمل والسياسة والإدارة والقيادة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية)، فنقد الصور النمطية والتنوير بأهمية دور المرأة في التنمية المستدامة لا يكفي لوحده، بل لا بد من اتخاذ خطوات عملية ملموسة في واقع الممارسة الحياتية، خطوات تشريعية وسياسية ومؤسسية واضحة في منح المرأة المكانة المستحقة. وهذا هو ما أكدته الدكتورة هند الشلقاني، مديرة الدراسات والنشر والإعلام والمكتبة بمنظمة المرأة العربية، في مداخلتها المهمة، إذ أشارت إلى أن "التأريخ للتطورات المعاصرة في ملف المرأة في المنطقة العربية، يشير إلى أن الدولة هي الفاعل الرئيس. لكن جهود الدولة لم تقضِ على جذور المشكلة الثقافية المرتبطة بوضع المرأة، والتي تعبر عن نفسها في الجدل المتجدد -رغم كل المكتسبات- حول المرأة ومكانتها ومشروعية قضية المساواة نفسها. ومن ثم تحتاج الدولة للتواصل مع خطابات ثقافية رصينة وتشجيع ظهور هذه الخطابات". وما فعلته المملكة العربية السعودية في بضع سنوات قليل شاهد حال ومآل. لكن السؤال الملح هنا هو ماذا بمقدور منظمة المرأة العربية عمله لملايين النساء العربيات اللاتي سقطت دولهن وصرن بلا أية شبكات حماية من أي نوع كما هو حال النساء في اليمن؟
والخلاصة هي: حينما يتكرر السلوك، يصير عادة، وحينما تترسخ العادة، تصير ثقافة، ولا تكمن مشكلة العنف في الأضرار الواقعية المباشرة التي يحدثها في الأجساد والنفوس بمستويات مختلفة، بما يتركه وينمّيه من آثار غائرة في القلوب والأذهان، وخطر موجة العنف التي تعيشها المجتمعات العربية الإسلامية اليوم بمختلف أنماطها، وأشدها قسوة وهمجية ووحشية التي تفتك بحياة أمتنا العربية العظيمة المستمرة منذ عقود بما لم يشهد له تاريخ مثيل، تعد بكل المقاييس أسوأ كارثة في تاريخ الإنسانية على الإطلاق.