الاستاذ النعمان مخاطبا الملك خالد: أمن الجزيرة مسؤولية مشتركة والاعداء يتربصون بنا

الأستاذ أحمد محمد نعمان والملك خالد بن عبدالعزيز
الأستاذ أحمد محمد نعمان والملك خالد بن عبدالعزيز (صورة مدمجة النداء)

أول ما وقعت عيناي على هذه الرسالة- الوثيقة ذهبت مباشرة الى تاريخها! الأفكار والمقترحات تكتسب أهميتها من تواريخها، قديمة كانت أو حديثة أو حالة!

في 1976 وجه الأستاذ (وهذه تسمية حصرية في اليمن) أحمد محمد نعمان رسالة الى الملك السعودي خالد بن عبدالعزيز ال سعود يقترح عليه البحث والاشتغال على صيغة وحدوية واقعية في الجزيرة العربية تتفادى تكرار اخطاء التجارب الوحدوية العربية السابقة.

هذه رسالة- وثيقة تحتاج قراءة متبصرة متحررة من ثقالات الماضي وكوابح الحاضر، ذلك أن تاريخها وشخصية مرسلها وظروف متلقيها، كل أولئك يفرض على قارئها استخدام عدسة مجمعة تمكنه من قراءتها في سياقها الوطني (واقصد اليمني)والاقليمي والقومي.

مساء أمس، وأنا انظر في أمر هذه الوثيقة، الحت على خاطري صور عديده رأيتها موصولة بها؛ من ذلك صورة "اليمن السعيد" في الجمهورية العربية اليمنية حيث الرئيس ابراهيم الحمدي في ذروة شعبيته وحلم "دولة المواطنين"، في شمال اليمن، يلوح وشيكا خصوصا مع تركيز الحمدي على تحجيم مراكز النفوذ القبلي واصحاب الامتيازات الموروثة من عقد الستينات، وهذه الاجراءات تتسارع وتيرتها وسط تأييد قيادة المملكة (الجارة) التي فتحت أبواب العمل لليمنيين مستفيدة من ارتفاع اسعار النفط في اعقاب حرب اكتوبر 1973.

كان اليمن الشمالي ينهض وكانت السعودية تدعم. وكان الرئيس الحمدي يبذل جهدا في "اليمن الجنوبي" الذي يقوده الرئيس سالم ربيع علي "سالمين" في سبيل تحسين العلاقات مع السعودية.

هذه الصور الرومانسية تشوش على انسجامها صورة شاعر يجلس في قاعة في صنعاء يلقي قصائده أمام جمهور يقظ ومتوثب يطلب منه بإصرار قصيدة بعينها لكي يقرأها لكنه يتأبى احتراما لواحد من الحضور!

الشاعر هو عبدالله البردوني.

والقصيدة هي "خوف".

و"الحاضر" هو رئيس مجلس القيادة المقدم ابراهيم الحمدي!

 

ما موضوع القصيدة؟

الشاعر يقول في قصيدته إن على الرئيس ان ينتبه من مكيدة تحاك له من "الشقيقة" الكريمة.

حسنا.

لقد راح الرئيس في 11 اكتوبر 1977 ضحية مكيدة سبق للشاعر أن حذره منه قبل عام.

عودة الى رسالة الاستاذ!

نعرف أنها جاءت في سياق ايجابي تبدو فيه العلاقات بين البلدين في افضل حال.

وهي إذ تقرأ الواقع ايجابا وتتحرك انطلاقا منه، فإن صاحبها يعرف ان القوى الدولية لا تترك الأمور للصدفة، ولن تقف متفرجة!

أن صيغة اخرى ترضي الولايات المتحدة وبريطانيا وتحقق مطالبهما في المنطقة ليس اليمن (شماله قبل جنوبه) جزءا من هذه الصيغة (مجلس التعاون الخليجي بعد حوالي 4 سنوات) فالدور المنوط بالشمال اليمني هو ذاته؛ دور" الدولة الحاجز" في مواجهة المد الناصري أولا، ثم الخطر الأحمر الذي يسيطر في دولة اليمن الجنوبي ويتوسع الى القرن الافريقي.

تقرأ الرسالة- الوثيقة اليوم فتنحسر على الفرص الضائعة، يمنيا وسعوديا وعربيا. وتتساءل مجددا: من يصنع القرار في الجزيرة العربية؟

رحم الله الرجلين؛ النعمان والملك السعودي الراحل خالد بن عبدالعزيز.



وإلى نص الوثيقة:

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة صاحب الجلالة الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود

ملك المملكة العربية السعودية المعظم

سلام الله عليكم صاحب الجلالة ورحمته وبعد؛

فإن ما وصل إليه العالم العربي من المحيط إلى الخليج من التمزق والصراعات والخلافات بين الدول والجماعات وبين الدعوات والاتجاهات وبين النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

إن ذلك يدعو المملكة العربية السعودية كقاعدة روحية للأمة الإسلامية التي تنضوي الأمة العربية تحت لوائها إلى إعادة الدرس والتمحيص والنظر في فكرة الوحدة العربية التي ظهرت منذ الانفصال عن دولة الخلافة العثمانية قبل ستين عاما، ولم تكن النتيجة سوى تمزيق البلاد العربية وإقامة الحدود والحواجز بين أبنائها والاتفاق بين الدول الاستعمارية على اقتسامها.

يا صاحب الجلالة

لقد كثر الدعاة للوحدة العربية فاختلفوا اختلافا كبيرا في الوسائل والأهداف، وتنازعوا وفشلوا فشلا ذريعا وذهبت ريحهم فإن لكل داع وجهة هو موليها لا تتفق مع وجهة الداعي لا في الفكر ولا في المذهب ولا في الهدف.

إن الوحدة العربية ظلت الألسن أكثر من نصف قرن تلوكها، والأفواه تتلذذ بذكرها وترديدها دون أن تكون لهذه الوحدة صورة واضحة، أو هدف محدد، أو خط مستقيم، ودون أن تستخدم للدعوة إليها، الوسائل المعقولة والخطط الحكيمة المدروسة.

فقد تصدر للدعوة إليها من لا يفقهونها ولا يؤمنون بها، ليفرضوا سلطانهم على الأمة العربية ويستأثروا بمقدراتها وطاقاتها وخيراتها فشوهوا فكرة الوحدة وطمسوا معالم الطريق إليها، وحولوها إلى فرقة وشتات، واتخذوا منها سلعة رخيصة يتسابقون على المتاجرة بها في أسواق المزايدات والطموحات والشعارات والهتافات.

كما تصدروا الدعوة لإنقاذ فلسطين بأفواههم لا بقلوبهم فدبروا الانقلابات والمؤامرات وأشعلوا نار الفتن والفوضى، وأعلنوا المنظمات الثورية والجبهات التقدمية باسم فلسطين فضيعوا أجزاء غالية من أوطانهم وزادوا فلسطين ضياعا.

 

يا صاحب الجلالة

إن الذي نتطلع إليه ونعلق آمالنا على المملكة لتحقيقه هو تصحيح الخطأ التاريخي الذي سار فيه الداعون للوحدة العربية الشاملة ارتجالا وبغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وتصحيح هذا الخطأ يبدأ بالدعوة لجمع كلمة القلة من العرب المسلمين في قلب جزيرة العرب، والبداية الصحيحة لتجربة رائدة إذا نجحت في جمع القلة فإنها ستنجح في جمع كلمة الكثرة، لأن وحدة المسلمين في الصدر الأول إنما بدأت بالقلة المؤمنة.

(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فأواكم وأيدكم بنصره). (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) قلة قليلة. (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت).

يا صاحب الجلالة

إن المملكة العربية السعودية في قلب جزيرة العرب تتمتع بمزايا لا تتمتع بها دولة من دول الأرض، فلم تجتمع لدولة من دول العالم قوتين عظيمتين روحية ومادية، كما اجتمع لهذه المملكة، ولذلك فهي تملك من وسائل التأثير وكسب المشاعر وجذب القلوب ما لا يملكه غيرها.

توجيه الدعوة لليمن بشطريها وعمان والبحرين والامارات وقطر والبحرين والكويت حتى يشعر الجميع انهم مشتركون بأمن واستقرار الجزيرة

إن على المملكة أن تبدأ بجمع كلمة أشقائها وأبنائها في قلب جزيرة العرب، في اليمن بشطريها، وعمان، والإمارات العربية المتحدة، وقطر والبحرين والكويت، وأن توجه الدعوة فورا إلى رؤساء دول هذه الأقطار الشقيقة لعقد مؤتمر قمة تطرح عليهم فكرة التضامن والتعاون، حتى يشعر الجميع أنهم مشتركون مع المملكة في أمن واستقرار الجزيرة وحماية مقدسات الإسلام والدفاع عنها ضد من يتربصون بالعرب الدوائر.

يا صاحب الجلالة

إن الفرصة سانحة لحماية قلب الجزيرة وجنوبها وخليجها من أخطار الانقسامات والصراعات والعقائد المستوردة، والمنظمات الثورية، والجبهات التقدمية التي غرقت فيها بعض الأقطار الشقيقة، وتفجرت أخيرا في لبنان حربا أهلية ضارية، ودماء مسفوحة، ومذابح وحشية، وخرابا ودمارا لم يسبق لهما مثيل.

إن الفرصة ما زالت سانحة فلنغتنمها (اغتنموا الفرص فإنها تمر مر السحاب).

والحماية الحقيقية لا يكفلها سوى التضامن الحقيقي بين المملكة وجيرانها والوقوف صفا واحدا لمواجهة هذه الأخطار تضامنا يبدأ خطوة خطوة حتى يصبح في المستقبل أساسا لوحدة صحيحة مبنية على قواعد راسخة من الشريعة والأخلاق والتقاليد الكريمة.

المتربصون لن يتوقفوا عن العمل على تشتيت الشمل وتمزيق الأوطان ونشر الفوضى

يا صاحب الجلالة

إن المتربصين بالعرب والمسلمين لن يتوقفوا عن العمل على تشتيت الشمل وتمزيق الأوطان وإثارة الحروب والصراعات ونشر الفوضى بواسطة العصابات التي يمولونها ويسلحونها ويدربونها ويلقنونها مختلف الشعارات.

الاعداء جادون في رسم الخطط لتمزيقنا حتى يتمكنوا من سحب الطاقة التي تختزنها ارضنا

إن الأعداء جادون في رسم خطط تمزيقنا ليشغلونا بمحاربة بعضنا بعضا، وبالمعارك الجانبية، والمشاكل الصغيرة التي لا تشكل خطرا، حتى يتمكنوا من سحب الطاقة التي تختزنها أرضنا، والتي تلعب الدور الأول في عصرنا الحاضر في خدمة العالم ومجالات الصناعة والزراعة والإبداع والاختراع.

إن الأعداء لن يهدأوا حتى يستنزفوا طاقاتنا التي لا حياة لهم بدونها، ويسحبوا أموالنا لاستثمارها، ولن يتركوا لنا سوى التناحر والجهل المطبق والفقر المدقع والحزازات والأحقاد، مصلحتهم أولا ولا يهمهم مصيرنا ولا استقرارنا ولا رخاءنا، إنهم سيقدموننا قربانا لمصالحهم وأطماعهم ولن يبالوا بنا في أي واد هلكنا.. تلك طبيعة أعدائنا قديما وحديثا..

يا صاحب الجلالة

إن آمالنا الكبيرة بالمملكة تدفعنا لطرح هذه الفكرة، فكرة الدعوة الفورية لعقد مؤتمر قمة لدول الجزيرة في هذه الفترة العصيبة، وثقتنا عظيمة أن الدعوة ستلقى الاستجابة السريعة من الجميع لما للمملكة في نفوسهم من تقدير وتأثير، ولأنهم أصبحوا يشعرون بالخطر أكثر من أي وقت مضى بعد أن شهدوا ما جرى ويجري في لبنان، وإن جميع الناصحين والمخلصين والمفكرين ما زالوا يحذرون وينذرون بأن لبنان ليست سوى البداية. ومن أمثال العرب ( ما حل بجارك أصبح بدارك).

يا صاحب الجلالة

إن هذه تذكرة من ناصح مخلص، ولست إلا من جنود الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وجلالتكم حفظكم الله في طليعة هؤلاء المؤمنين.

المخلص

أحمد محمد نعمان

الطائف في 19 رمضان 1396

الموافق 13 سبتمبر 1976